حين كانت الألفية الثالثة تطرق أبواب هذا الكوكب انشغلت مؤسسات ومراكز وأبحاث وأكاديميات اضافة الى الأفراد ذوي الاختصاص في رسم مسودات لمستقبل قيل ان مفاتيحه بأيدي من حرّروه من قراءة الطوالع والفناجين، لأنه لم يعد مجرد نبوءات، بقدر ما هو حصيلة للممكنات في الحاضر، ذلك لأن شجرة الكافور لا تطرح تفاحا لمجرد اننا نرغب في ذلك، او كما قال المثل العربي ان الإناء سوف يرشح بما فيه وليس اي شيء آخر.
حين اعود الى تلك الايام قبل اكثر من خمسة عشر عاما اجد ان الواقع خيّب الكثير من الامال، وهبت الاعاصير على غير ما اشتهى القباطنة، اما الوعود بتحقيق سلام كوني ودرجة من الرفاه فهي اصبحت عرقوبية بامتياز لأن ما حدث هو ان عدد المشردين تضاعف عدة مرات بسبب النزاعات الاهلية والحروب وان الفقراء ازدادوا فقرا وعادت الى بعض مناطق العالم المنكوبة أوبئة ظن الناس انهم ودّعوها الى غير رجعة !
هكذا وجد الظامىء الذي تشققت شفتاه بانتظار جرعة ماء من يقدم له حفنة من الرّمل، فلا السلام تحقق ولا الرّفاه اصبح من صفات زمن اعجف اندلعت فيه الشّرور المؤجّلة دفعة واحدة وأفرزت ثقافة الكراهية والاقصاء، كل هذا التوتر والعنف وكأن البشرية عادت قرونا الى الوراء، وكل ما قدّمه التاريخ من معارف ومواعظ تبدد وذهب مع الريح المثقلة بالغبار والدّخان!
ولا أدري كيف تصوّر المتفائلون الذين دعوا الى التركيز على النصف الممتلىء من الاناء ان التاريخ سوف ينقلب على نفسه ويبلغ رشده الانساني، رغم انهم يعلمون او لا يعلمون والمصيبة عظيمة في الحالتين ان ما قاله المؤرخ ويل ديورانت عن التاريخ اصبح من البديهيات، قال انه تاريخ صراع وحروب لم تهدأ الا لاعادة الحسابات او فرز الغنائم او شحذ الاسلحة، وغاب عن المتفائلين ايضا ان القرن العشرين الذي ورثناه بكل حمولته من الدم والدمع والشقاء كان قرنا غاشما تمدد واستطالت انيابه فقضم عقدا ونصف العقد من هذا القرن الجديد.
وما كتبه هنري ايكن عن حروب القرن العشرين بأنها المجال الحيوي لصراعات الايديولوجيا في القرن التاسع عشر يقبل التحوير والاضافة، فحروب ونزاعات هذا القرن منذ دشّنه زلزال الحادي عشر من ايلول هي ايضا المجال الحيوي لما كان هاجعا من حروب اهلية وطائفية باردة في النصف الثاني من القرن العشرين.
المسألة أبعد من نصفي الإناء ومن كل ما نتمنى ادراكه دون امتلاك أدواته واستحقاقاته! الدستور