ارتقى فخامة رئيس الجمهورية الفرنسية أولاند في أدائه الرئاسي، إلى مرتبة الساحر، وهنا لا بد من التوضيح أن وصف الساحر في هذا المقام، هو قمة المديح والثناء على الرئيس الفرنسي، الذي وظف الديبلوماسية الإقتصادية والسياسية والعسكرية والاستراتييجية، لخدمة بلاده التي إنتخبته ليكون رئيسا لها، وحاميا لمصالحها، وليس ناهبا لها ومفرطا بمصالحها، كما هو الحال في البلدان العربية المنكوبة بحكامها، الذين نراهم هذه الأيام يحرقون بلدانهم بالبراميل المتفجرة، ويغرقونها بالصراعات الداخلية، ويفرطون بمقدراتها للأجنبي.
ليس سهلا على أي رئيس أن يقوم بمثل ما قام به الرئيس أولاند، فما أنجزه مؤخرا في الخليج، يحسب له ويستحق أن ينتخب بسببه إلى الأبد، لأنه أثبت قدرته على خدمة بلاده، وكافح من أجل ذلك في عش الدبابير، إذ أن الخليج وكما هو معروف محسوب على أمريكا وبريطانيا، وقد وضعت "مستعمرة" إسرائيل فيه قدمها مؤخرا علانية وصار لها هناك حلفاء وأصدقاء.
السحر ليس سهلا، ولا هو بالأمر العادي، بل هو عمل يحتاج إلى قدرات ومؤهلات، ولذلك يقال عن الشخص الذي يمتلك قدرات هائلة، أنه ساحر، وكما قلنا فإن الرئيس أولاند تمكن من إختراق الخليج ونسج علاقات إقتصادية وعسكرية مع دوله العربية، ولذلك يحق له أن يأمر بأن يكون يوم الخامس من شهر أيار على وجه الخصوص، والذي حضر فيه قمة دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض كضيف شرف، يوما وطنيا يحتفل به الشعب الفرنسي، بأن من الله عليهم برئيس مخلص جاد مجتهد مثل أولاند، وتجدد البيعة فيه للرئيس، وأتمنى على الجامعات في كافة انحاء العالم وخاصة التي تدرس العلاقات الدولية أن تضع في مناهجها هذا الإنجاز الذي حققه الرئيس أولاند.
الأمر الذي نتحدث عنه ليس إنجاز رئيس فحسب، بل هناك زوايا أخرى يجب التمحيص بها لمعرفة الخفايا والأسرار القابعة وراء هذا الإنجاز، إذ أن الأسئلة كثيرة ومنها : كيف تحول حلفاء واشنطن وبريطانيا التقليديون 180 درجة بإتجاه باريس تحولا إقتصاديا عسكريا، حقق للاقتصاد الفرنسي عشرات المليارات من الدولارات ثمنا لطائرات عسكرية متطورة وما يتبع ذلك من تبعات جرى التوقيع عليها.
أما السؤال الثاني فهو :هل أن ما قام به صناع القرار في الخليج يعد رسالة إلى واشنطن قبل توجههم للقاء الرئيس أوباما في منتجع كامب ديفيد ليحدثهم عن الإتفاق الأمريكي الأوروبي- الإيراني النووي المنتظر؟ والسؤال الذي يتبع مباشرة : هل يجرؤ صناع القرار في الخليج أن يوجهوا مثل هذه الرسالة للرئيس أوباما؟
لقد نجح الرئيس أولاند في تثبيت بصمة باريس في الخليج ليس من خلال القواعد العسكرية ولا من خلال تحركات البوراج الحربية أو التهديد والوعيد، بل من خلال بيع طائرات رافال الحربية الحديثة، وقد اتفقت دولة الإمارات العربية المتحدة مع باريس على تسليح الجيش التونسي أيضا، كما فعلت السعودية مع باريس لتسليح الجيش اللبناني، ولعل ذلك أيضا يعد من النجاحات المتتالية التي يحقققها الرئيس أولاند.
وهناك صفقة أخرى من طائرات الرافال الفرنسية لمصر، ناهيك عن الصفقات الأخرى التي بلا ادنى شك انعشت الاقتصاد الفرنسي أيما إنعاش في وقت يشهد فيه الاقتصاد الغربي عموما تباطؤا، لكن التطورات العربية التي نشهدها منذ نحو الخمس سنوات، عملت على تحريك الاقتصاد الغربي وتنشيطة ومحاربة الفقر والبطالة، بينما نحن العرب نعاني من مستويات مرتفعة من البطالة ومن ارتفاع حاد في نسبة الفقر، وتباطؤ شديد في الاقتصاد وكل ذلك بأيدينا، لأننا لم نحسن إدارة انفسنا، ولا خلافاتنا مع الآخرين، إذ صادقنا الأعداء وتحالفنا معهم، وحاربنا الأصدقاء وتخندقنا مع أعدائهم.
السؤال الملح منذ زمن - وبحسب معطيات الأمور في الوطن العربي، وتحديدا بعد أن تبين أن "مستعمرة " إسرائيل الخزرية ليست هي العدو للعرب - لماذا يتسلح العرب وينفقون مئات المليارات من الدولارات على صفقات التسلح من الغرب ؟
هذا السؤال هو دعوة ليس لصناع القرار بل للسياسيين وعلماء الإجتماع والخبراء للغوص في هذه القضية وإطلاع الرأي العام العربي على فحواها، لأن المبالغ التي تصرف على التسلح مهولة، وحتى لو قمنا بحساب قيمة العمولات التي تذهب لمن يعقدون الصفقات، نجد أنها ضخمة جدا وتكفي لحل مشاكل خمس دول عربية على الأقل.
لو أن دول الخليج العربية قامت بتأسيس صندوق للتنمية العربية، تكون حركة مبالغه محصورة في المانح والمنفذ، ولا يصار إلى دفعها للمسؤولين في الدولة المستهدفة، لوجدنا تحولا نوعيا في الحياة العربية، إذ بدلا من رهن الدول العربية للقاتل الاقتصادي "صندوق النقد والبنك الدوليين " اللذين يديرهما يهود بأجندة صهيوينة، فإننا سنجد تنمية عربية شاملة وعلاقات عربية نظيفة، أنجزها صندوق عربي.
هناك العديد من الحالات التي كان يجب أن يتدخل المال الخليجي العربي فيها وأولها تأسيس صندوق لدعم الشعب الفلسطيني، بدلا من إضطرار العمال الفلسطينيين بدافع الحاجة للعمل في المصانع والمزارع وبناء المستعمرات الإسرائيلية بدلا من الجنود الإسرائيلييين الذين كانوا يشنون علينا العدوان تلو العدوان – وأنا هنا لا أدافع ولا أبرر هذه الخطوة الإضطرارية ولكني أسوقها للفائدة – كما أنه كان يتوجب تأسيس صندوق خاص بمصر لإحداث تنمية فيها، لأن السادات إستغل ما أسماه "البخل الخليجي " ورمى مصر في الفخ الإسرائيلي، ومرة أخرى أنا لا أبرر مثل هذه الخطوة.
كما أنه يجب التذكير بأنه كان لزاما على دول الخليج العربية تخصيص صندوق تنموي للأردن وفق تفاهمات رسمية وجادة لتنفيذ المشاريع الضرورية لإخراج الأردن من شبكة الإضطرار الأمريكي – الإسرائيلي، وأذكر ما كتبه الراحل الحسين في مذكراته حول هذه القضية إذ يقول أن غضبة امريكية على الأردن ضايقته ماليا، فلجأ الحسين إلى دولتين خليجيتين إستقبله المسؤولون فيهما بحفاوة بالغة ودعوه إلى ولائم ولا أفخم، لكنهم لم يمنحوه سنتا واحدا، فعاد إلى عمان، وبحكم حصافته وقدرته على إستنباط الدروس، أدرك أن واشنطن تريد أن تضغط عليه، فرفع سماعة الهاتف وقال للسفير الأمريكي في حينها : سعادة السفير ما هو المطلوب مني ؟
ووجدها السفير الأمريكي فرصة ليتحدث بإسهاب وأبلغ جلالته أن عليه العودة إلى تلك الدولتين الخليجيتين، ليتسلم مساعدة قيمتها 400 مليون دولار من كل منهما.
بعد ذلك رفع جلالته السماعة وتحدث مع أمير الدولة الاولى وشكره على حسن الضيافة والإستقبال، ودعا الأمير
جلالته لزيارتهم مرة أخرى....،وقبل أن يكمل قال جلالته وأن لي مبلغ 400 مليون دولار، وهكذا حصل مع الأمير الثاني، بمعنى أن امريكا عندما رفعت الحظر عن الأردن ، حصل من دولتين خليجيتين فقط على 800 مليون دولار.
أختم بأن تنوع الحلفاء أمر مستحسن ومطلوب، وأن إدخال فرنسا على الخط، له فوائده، في حال تحدثنا مع باريس عن مصالحنا وعن الإسلاموفوبيا ، بمعنى إعتماد حديث المصالح والتكامل.