يفاجئنا توفيق الطيراوي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ومسؤول ملف التحقيق في اغتيال ياسر عرفات يوم الأربعاء الماضي بالقول: “جاءتنا رسالة من قبل الفرنسيين قبل 20 يوما يطلبون فيها التعهد بعدم الحكم أو إعدام قاتل عرفات وحددوا مهلة 15 يوما للرد على ذلك”.
ولأن تعهدا كهذا كان لا بد أن يتسرب، فقد لجأ الفريق الحاكم في السلطة إلى رفض الطلب؛ بحسب الطيراوي، لكن القصة برمتها تطرح أسئلة مهمة حول الملف برمته.
من المؤكد أن الطلب الفرنسي ما كان ليكون لولا قناعة السلطات هنا بأن عرفات مات مسموما بالفعل، وأن هناك بطبيعة الحال من أدخل السمَّ إليه، وأنه فلسطيني أيضا، ولا يزال على قيد الحياة، بل إن هناك ما يشير إلى أن باريس على علم بهوية الشخص المذكور، الأمر الذي يثير الدهشة بالفعل، إذ كيف يحدث أن اللجنة العتيدة التي يرأسها الطيراوي، وتحقق منذ سنوات بوجود قناعة بعملية الاغتيال لم تصل إلى نتيجة، مع العلم أن أول من ينبغي أن يُسأل عن هذا الأمر هو الطيراوي نفسه، ليس بصفته رئيس اللجنة فحسب، بل بصفته المسؤول عن أمن الرئيس الفلسطيني حين تم الاغتيال.
ما ليس موضع شك في هذا الملف هو أن السلطات الفرنسية كانت تعلم منذ البداية أن عرفات مات مسموما، لكنها تسترت على ذلك، والمؤكد أيضا أن قادة السلطة، وفي المقدمة دحلان وعباس كانا يعرفان ذلك أيضا، لكنهما كانا مشغولين بوراثة الرجل أكثر من الكشف عن حقيقة اغتياله، فضلا عن أنهما لم يكونا معنيين أصلا بالكشف عنها، لأن ذلك يعطّل برنامجهما السياسي القائم على التصالح مع العدو وليس الدخول في صدام معه حول عملية اغتيال فرحا بها للتخلص من خصمهما، خاصة أن الجميع يدرك أنهما معاً هما من وفَّر الأجواء المناسبة لعملية الاغتيال، بعد اطمئنان العدو إلى أن السلطة ستنتقل بسلاسة إلى فريق ترضى عنه، بل تريده، وهي التي ساعدته على مناكفة عرفات وحصاره في المقاطعة تمهيدا لاغتياله.
جاءت التطورات التالية لتؤكد أن السلطات الفرنسية بقيت مصرة على إخفاء عملية الاغتيال فخرجت تقول إن لم يمت مسموما بناء على فحوصات أجرتها، فيما كان الفحص الذي أجراه معهد لوزان السويسري واضحا في تأكيد العكس، وإن لم يجزم بنسبة مئة في المئة لاعتبارات سياسية أكثر منها طبية، وربما لأن المسائل من هذا النوع تخضع لاعتبارات دقيقة، حتى في الإطار الطبي، مثل نشرات الأدوية التي تضع احتمالات التأثير الجانبي حتى لو كان يقل عن واحد في المئة ألف.
من جانب آخر، يبدو الطلب الفرنسي في غاية الوقاحة، مع العلم أن المجرم الحقيقي في الواقعة ليس هو من حمل السم أو أدخله في جسد عرفات، بل من طلب منه ذلك، وهو هناك الكيان الصهيوني بكل تأكيد، لأن فلسطينيا أيا كان، حتى لو كان قياديا ما كان له أن يحصل على سم من هذا النوع لا يتوافر إلا في عدد قليل من الدول أهمها: روسيا والكيان الصهيوني، الذي حصل بدوره على أسوأ السموم من العلماء الروس، خاصة اليهود بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
والسؤال: كيف سترد باريس على كلام الطيراوي: هل ستقول إن ما قاله غير صحيح، ثم تخرج لتؤكد ما سبق أن أكدته من قبل من أن الرجل مات موتا طبيعيا، أم ستؤكد ما قاله معه لوزان من دون الإشارة إلى من أدخل السم إذا كانت تعرفه؟ وقبل ذلك وبعده، هل كانت معرفة من أدخل السم في حاجة للتأكيد الفرنسي في ظل القناعة المؤكدة بوقوع الاغتيال؟!
الأهم من ذلك كله، ماذا سيترتب على القضية من أصلها، وهل سيغيّر عباس من نهجه بعدها، وهو الذي يحتفل بالرئيس الشهيد، بينما يحتفل به، ويتوسل باسمه شبان يهتفون لمن انقلبوا وتآمروا عليه؟!
لن يترتب على كشف الحقيقة شيء، حتى لو قدموا شكاوى دولية كما لوّحوا من قبل، فالقضية برمتها في تيه مقيم مع القيادة الراهنة، ومن جاءوا بها (القيادة أعني) وقتلوا عرفات لكي تصعد من بعده يدركون ذلك، وعموما يبدو تيه القضية أكبر من مقتل عرفات الذي يبحثون عن قاتله، لا سيما أن هناك قادة كبارا قتلهم الاحتلال ولم يتورع عن الاعتراف بذلك، بل هنالك مجازر ارتكبت ولم يحدث شيء أيضا، لأن الرد الطبيعي من قبل الشعب هو المقاومة، بل هو الرد على الاحتلال من حيث أتى.
وهنا والآن، ومنذ 11 عاما، ثمة قيادة ترفض المقاومة وتعشق التعاون الأمني مع العدو، ولا أمل بالتصحيح ما لم ترحل، أو يطلق الشعب انتفاضته المباركة، والتي ينبغي أن تطيح بهذه الزمرة حتى يمكنها التقدم في مواجهتها مع الاحتلال.
الدستور