إعادة تدوير الذات والمسرب الخاطئ
د.رحيل الغرايبة
29-04-2015 05:13 AM
في غياب القوى السياسية الفاعلة على الساحة الأردنية، والضعف المزري للحياة الحزبية، الخالية من ثقافة التنافس على البرامج وطرح الحلول لمشاكل مجتمعاتهم؛ تبرز الحالات المرضية والظواهر الفردية المصابة بداء «تضخم الذات»، التي أرهقت المجتمع الأردني بمحاولات التلميع السياسي المتكررة بعد كل حالة إنطفاء وخفوت، ووجدت في منهجية إعادة تدوير الذات مرة بعد مرة أسلوباً مغرياً بالنجاح الموهوم.
مجتمعاتنا المحلية تعاني من حالة مرضية تستحق المعالجة، تلك التي تتمثل برواج أسلوب إعادة التمليع عبر مسارين مطروقين بكثرة، لا يكاد الإبداع السياسي المنظور يغادرهما؛ المسار الأول يتمثل بالمعارضة الفجة المصطنعة التي تحمل قدراً كبيراً من التكلف السطحي، ظناً من بعضهم أن هذا الأسلوب هوالأسهل و الأكثر نجاحاً والأسرع في الحصول على المكتسبات، لأن غيره قد جرّب ذلك وحقق بعض المحاولات الناجحة، وتتبدى المشكلة الغريبة المستعصية عندما يكون هذا الشخص قد تربّى في حضن النظام والدولة، وكل لحم أكتافه وأردافه من خير الدولة و النظام، هو وأبوه واخوانه وأبناؤه، وإذا مرض هو أو أحد أبنائه يعالج على حساب الديوان وفي أرقى المستشفيات الأجنبية مع أنه مقتدر مالياً، ويتحقق له ما لا يتحقق لغيره، ومع ذلك يمطرنا صبحاً ومساءً بالخطابات النارية والمواعظ الخارقة الحارقة التي تفيض لهباً وناراً ودخاناً، ثم يتهم الآخرين بأنهم صنيعة الدولة والحكومة، وأنهم تحيط بهم شبهات عطف الدولة والتعاون معها!
أما المسار الثاني الذي يستعمله أكثر السياسيين القدامى والجدد الباحثين عن الأضواء يتمثل بإتقان فن اتهام الآخرين، وتشويه المخالفين أو المنافسين، إذ ليس من الضرورة أن يكون الآخر نقيضاً أو مخالفاً في الرأي والموقف السياسي، وإنما يكفي أن يتم تصنيفه أنه من المنافسين، أو من يتوقع منه أن يكون منافساً في المستقبل، حتى لو كان متطابقاً معه في الفكر والموقف، وإنما ينحصر التفكير عند هؤلاء في أعمال الحيلة وتعظيم الكيد في إبعاد من يتوقع منه أن يشاركه في بعض المكتسبات، أو ربما يحل محله في بعض المساحات التي يراها حكراً عليه وعلى ورثته.
كثير من المتقاعدين الذين أفنوا حياتهم في المواقع الحساسة في الدولة يسارع إلى التفكير في إعادة إنتاج نفسه من خلال حمل سلّم المعارضة، والسير به في عرض الشارع؛ يلطم هذا ويتهم ذاك، ويقلل من شأن أولئك، والتهمة الجاهزة السهلة التي لا تحتاج إلى برهان أو دليل تتمثل بالتعاون مع الدولة! وبعضهم تقلب في كل المناصب، وتسلّم أخطر المواقع، وتدرج حتى وصل إلى أعلى مراتب المسؤولية، وبعد أن وصل من العمر عتيّاً، يسارع بقذف الآخرين أنهم «زلم دولة».
هناك أشخاص يعلمون علم اليقين أنهم وصلوا إلى المقعد النيابي بالمساعدة المطلوبة، وتم اخبارهم بذلك قبل أن يترشحوا، وبعد أن تم اختيار غيرهم في المرة الأخرى؛ تراهم يقلبون ظهر المجن، وتتغير لهجتهم، وتنطلق ألسنتهم الفصيحة بالردح والهجاء ويقرضون الشعر، ويصبحون معارضين من الطراز الأول، ويبدأون بحفظ قاموس الإتهامات التقليدية، وعلى رأسها التعاون مع الدولة.
والسؤال الكبير المطروح في هذا السياق: هل هناك تهمة تطلق على الشخص في دول العالم أنه عميل لدولته، ولا أدري هل يتم التقاذف بهذه التهمة في غير الأردن، ولا أدري أيضاً هل (موضة) تحول رجال الدولة إلى أقطاب معارضة شرسة بمجرد مغادرة المنصب موجودة ومقبولة ومعمول بها في دول العالم المتقدم وغير المتقدم؟!
في نهاية الأمر لكل شخص الحرية في إعادة انتاج نفسه وله الحرية في إعادة تدوير ذاته، والبحث عن اللمعان والأضواء في خريف العمر فهذا شأنه، ولكن ليس من حق أحد أن ينصب من نفسه حكماً على الآخرين، وليس من حقه أن يقوم بتلميع نفسه على حساب خلق الله، عبر توزيع التهم وتشويه العاملين في الحقل الوطني الواسع، لأن الأصل فيمن يريد أن يلمع نفسه أن يعمد إلى إعادة التعريف بنفسه من خلال برامجه السياسية الجديدة، أو طروحاته الفكرية الخاصة به، وعليه أن يقصر لسانه عن الولوغ في أعراض الآخرين، وأن يبتعد عن حرفة القدح والذم التي أصبحت ممجوجة وغير ذات جدوى.
الدستور