لا توجد قضية تتجسد فيها كل أشكال القبح الإنساني وتمس بكرامة الناس واحترامهم لأنفسهم وتعبِّر عن أوجاعهم وتعاستهم ومدى شعورهم بالانكسار والذل والظلم والإقصاء والتهميش كقضية الطفر والفقر.
الطفر في بلدي مولّد للخوف والاحباط، مولّد للبؤس والاضطهاد والضيم، والغربة وخاصة لدى الشباب، والهجرة هي الملاذ الوحيد في هذه الحالة.
أظهر مسح أجراه فريق أممي في الأردن مؤخرا ان ثلث الشباب الأردني يرغب في الهجرة عن الوطن والخروج منه، حيث ماتت لديهم قيم الانتماء على عتبات الفقر والظلم والتهميش وعدم تكافؤ الفرص حتى بات الشباب غريبا وبات مشروعا لمهاجر بمعنى الكلمة، الطفر حتماً لن يجلب إلا الشقاء خاصة للشباب.
في أيامنا هذه يرى الشباب ان هناك فرصة للغنيّ فرصة في كل شيء، التعليم والوظيفة والمناصب والسفر والسيارة والصحة وكل مناحي الحيّاة كل هذا أصبح حكراً عليهم، أما الفقراء فانعدمت فرصهم في كل شيء حتى من يجتهد ويحاول سيبقى ماضيه يرافقه ويقف عائقاً أمام تطوره على جميع الأصعدة، انه زمن التوريث على كل الأصعدة فكما المناصب العامة توْرث من ألاب للابن، الفقر والغنى يُوّرثان بكل ما يرافقهما من تبعات،
ما أجملها من جُملة تختصر حالنا قالها أحد السلف، قال: المال وطنٌ في الغُربة ... والفقر غُربةٌ في الوطن.
حقاً يمشي الفقير وكل شيء ضده، والناس تغلق دونه أبوابها، الطفران تراه مبغوضاً من الناس وليس له أي ذنب سوى ان هناك غنيا سرق قوته، الطفران يرى العداوة ضده ولا يعرف أسبابها، الطفران يرى الغني إذا تكلم بالخطأ يقول له الناس أصبت ويصادقون على أقواله، ويرى الفقير اذا تكلم يقولون له الناس أخطأت
تولّد لدينا شباب غاضب وحاقد على الظَّلَمة والفاسدين، الذين اوصلوه الى النفور من حضن الوطن والبحث عن حضن بديل، كل شاب صار يحلم بالهجرة بسبب الفقر والطفر، آملا في تحقيق طموحه، ذلك لأن البيئة المحلية أصبحت طاردة، غير مشجعة على التجذير، وبات البحث عن مكان أكثر تصالحاً مع النفس ضرورة ملحة.
الشباب الاردني بات يدرك كل شيء، وبات يعرف أن الزمن قد اختلف واصبح معه الرويبضة يتصدر المجالس ويتكلم في أمور العامة، ويعرف أن الزمن دار واصبح معه يصدّق الكاذب ويكذّب الصادق،
يرى الشباب ان اللصوص الذين اوصلوه الى حالة الطفر والفقر هذه، لا يتسورون المنازل في جوف الليل، وانما يرونهم خلف مكاتب فخمة في وضح النهار يأمرون وينهون، يرون سارق ومارق متّكئين على النمارق، يرون ان العدالة تسير دائما فوق اكتاف الفقراء والبؤساء!
اختلف لدى الشباب الاردني مفهوم الغربة حتى أصبح يعني لهم تفريجاً لهمومهم واكتساباً لمعيشتهم، الشباب قوة، مغامرة وصراع، كفاح وحرمان، ثروة عندما تجتمع، الشباب مادة الوطن وصلبه وعموده الفقري، يبحثون عن الهجرة .. فماذا بقى لك يا وطني؟
صحيح أن الغربة عن الوطن كُرْبة كما يقال وفيها يتعلم الإنسان المحال، لكن الكُرْبة العظيمة ان تكون غريبا في وطنك.