.. مع عصر الجمعة الماضية دشنت مرحلة جديدة في مسار نقابة الصحفيين الاردنيين . بدا الامر وكأنه تراشق كلامي تصاعد بوتائر مفتعلة الى مرحلة عنفية كانت ايذانا بتخليص فكرة النقابة من طابعها "الأسطوري" بصفتها مظلة للانزواء.
منذئذ، تبدت بشكل صارخ عوالم الذاتية المفرطة الساعية لتهدئة ارواح قلقة غيب اصحابها العقل طوعا او هروبا من استحقاقات دفع ضريبة مواجهة الواقع كما هو دون لبس.
مشكلة النقابة بنيوية لا بل وعضوية تتصل بالقانون والمناخ السياسي وهيمنة اصحاب الصحف القدامى واستقوائهم التاريخي على الكتلة الكبرى من الاعضاء "الطفرانين".
يذكر تعامل اصحاب الصحف مع نقابة الصحفيين بقصة "الانفس الميتة" للكاتب الروسي نيكولاي غوغل، الذي اقدم على تمزيق الجزء الثاني منها جزعا من امكانية التغيير لقناعته ان هذا التغيير يستدعي ان تأخذ بيد كل فرد لتهديه الى الطريق وهو تصور مستحيل التحقق..
في "الأنفس الميتة" يسخر غوغل بقسوة من فضيحة القوى التي تعتاش على اهانة الانسان. هذه القوى يجسدها بطل الرواية الذي يستفيد من نظام القنانة السائد في روسيا آنذاك برهن "الأموات" من الفلاحين في دوائر الدولة.. اذ كان يجري تثبيت عدد الفلاحين "النفوس المسجلة" بقوائم تقدم مرة كل بضعة أعوام.. وفي الفترة بين تسجيلين يعتبر الفلاحون الموتى احياء يلزم مالكوهم دفع الضرائب عنهم للسلطة.. وعلى هذا الأساس بنيت حسابات بطل الرواية الذي يجوب أصقاع روسيا ليشتري النفوس التي غادرت الحياة "فيتخلى الملاك له بكل رحابة صدر عن الفلاحين الموتى" بينما يقوم البطل "برهن الاموات" في مجلس الرعاية بصفتهم أحياء فيحصل على المال ليراكم ثروة كبيرة.
باختصار يقول غوغل باستحالة النهوض معبراً عن يأسه الكامل في امكانية التغيير، فيموت مغموماً معتزلاً قلقاً حائراً وحاسماً مصير انسانه الذي لم يولد الا للمعاناة.
.. الأنفس الميتة"، فكرة لم تكتمل بعد، فضاؤها الزمن الانساني الممتد من مرحلة مقارفة الحياة وفق نظام تقسيم العمل ووليده المدعو مجازاً "استغلال".. الى زمن الحاسوب وعبودية تحقيق الربح سريعاً بتطويع الانترنت لخدمة التجارة وتحصيل فائض القيمة..
..فكرة جهنمية أدانها الكاتب بشدة يمارسها اليوم بإمعان تجار يتحالفون والضائقة في هرسنا، وعلى الرغم من ذلك تلهج ألسنة وعينا الزائف بكيل الثناء على افعالهم.
"الأنفس الميتة"، جموع المهانين والمذلين أولئك أهل الطوابير في الصفوف المتلقية للمعونة بشتى ضروبها وتلاوينها.. هم ببساطة أنا وأنت.
ستبقى النقابة في مرمى نار أهل المال الساعين الى تأبيد سطوتهم عليها لاستخدامها في منع حلول لحظة يفقدون فيها عالم الأبهة والنجومية. هؤلاء الذين غدوا مدى العقود أباطرة وأوثانا مقدسة لا يقدمون سوى الفتات لمن استوطنت في عقولهم أوثان التبسيط .
muleih@hotmail.com