لم تكن الفتاة البريئة "سارة بلاباغان" تعلم أنها ستقع يوماً ضحية لجريمة غادرة حاكتها الأيادي الآثمة على بعد 7000 كيلومتر من وطنها في جزر الفلبين المسلمة الفقيرة. وكانت سارة قد غادرت وطنها إلى إحدى دول النفط العربية للعمل في خدمة المنازل، ولم يمض على سفرها سوى 17 شهراً قضتها في العمل المضني والأمل في الحصول على عائد يمكنها من إعالة أهلها البسطاء، حتى روعت ذات يوم بالحقيقة المفزعة الكامنة في وحش بشري اغتصب براءتها وبدد أحلامها في حياة آمنة سعيدة.
ففي هذا اليوم المشؤوم قام مخدومها ع.ب، وهو ضابط أمن متقاعد في جهاز الأمن، باستدعائها إلى مخدعه وراودها عن نفسها، فرفضت بشدة، وهنا وضع سكيناً على رقبتها ومزق ملابسها عنوة... حاولت التخلص من قبضته... فردها وأوسعها ضرباً... قاومته وسط دموعها والألم... لكنه تغلب عليها وواقعها بعنف كجنون الرغبة فيه... استعطفته أن يرحم ضعفها وبراءتها... غير أنه أغلق أسماعه عن توسلاتها حيث لا شي يهم سوى انتشار الفرح المختمر في جسده... صرخت سارة كالظبي المذبوح... هدأت نفسه المريضة واستسلم لموجة من الخدر... سقط السكين من يده... زحفت إليه وأمسكت به... وفي لحظات اختزلت فيها ذل السنين وغضبة الشرف المثلوم انهالت على صدره بالطعنات حتى أحالته إلى جثة هامدة.
حكمت المحكمة المحلية على الفتاة بالسجن، وبتميز الحكم الأول لم تطمئن المحكمة إلى أدلة الدفاع فحكمتها بالإعدم... وقد أثارت القضية استياءً عالمياً وغلياناً شعبياً وحكومياً في دولة المغدورة مما حدا بحكومة الدولة إلى إعادة محاكمتها، وتتابعت الجلسات القضائية حتى صدر الحكم بالإفراج عن الفتاة لقاء دية تدفع لأهل القتيل.
لكن القضية لم تنته بصدور الإفراج عن سارة... ولم تبدأ أساساً بقصتها، وإنما هي حلقة متصلة في تاريخ العذابات الإنسانية الطويلة لأجراء المنازل وعبيد العصر الحديث. فإطلاق سراح سارة لن يحسن أوضاع الآلاف من قريناتها اللاتي يعملن في خدمة المنازل ويخضعن لإملاءات المسترقين العصريين بعيداً عن أي رقابة أو حماية قانونية. وكثيراً ما يتعرضن إلى الحبس والتعذيب والإنتهاك الجنسي والحرمان من الطعام أو النوم وقطع الراتب، وغيرها من ضروب المهانة والخسف.
ترى إلى متى يستمر هذا المسلسل الإجرامي المتمثل في حفنة مما يسمى بمكاتب الخدم التي تتخذ من بعض مناطق "المدن الراقية" مقاراً لمزاولة أعمالها، ويديرها ثلة من السماسرة قساة القلب المتاجرين بعذابات الإنسانية. حيث يشترك هؤلاء مع أقرانهم في بعض الدول الآسيوية الفقيرة في التغرير بفتيات الأسر المعدومة ودفعهن لتوقيع عقود للعمل المأجور في البيوت ضمن ظروف معيشية مهينة ومذلّة لبشريتهن.
نستغرب هذا الإصرار الحثيث من قبل الرأسماليين التابعين في السعي إلى تعظيم أرباحهم الفاحشة وخدمة "الأسياد الجدد" بإعادة إنتاج وإحياء ظروف الإنتاج الممسوخة من مخلفات النظام الإقطاعي البائد دون أدنى اعتبار لروح التحرر والمساواة الإسلامية!!
ما من شك أن هذه الأنماط الرجعيّة من الأعمال السالبة للحرية قد استنفذت عصرها وولت إلى غير رجعة، فهي بذلك لا تشكل ضرورة اقتصادية أو اجتماعية. كما أنها لا تجاري التطور المادي لقوى الإنتاج وما تبعه من تطور العلاقات الإنسانية واستبدال النظام الإجتماعي في مرحلة تاريخية معينة بنظام آخر متطور يوافق المرحلة الحضارية السائدة ويحقق حرية ورفاهية أكبر للبشرية.
هذه الأحداث المؤسفة في مجملها ليست سوى إضاءات جديدة تسلط الضوء أكثر على الممارسات الظالمة التي ترتكب في جاهلية القرن العشرين ضد النساء والفقراء في أمتنا بدفع من القوى المتبطلة والمرابية في المجتمع. وهذه العقود التي يسخّر بموجبها أجراء المنازل باطلة بطلاناً مطلقاً، لأنها تشترى من الأجراء كرامتهم وحريتهم وهي حقوق مطلقة لا يملك الإنسان أن يتنازل عنها أو يساوم عليها. وهذه الأموال البخسة الملوثة بالدنس والبغي لا تشتري للأجراء سعادتهم، لكنها ثمن الدعّة والحياة الفوقية التافهة التي يعيشها أسيادهم في البيوت المترفة والقصور الفارهة. نتساءل أين الحركات والجماعات النسوية من هذه القضية؟ أم أنهن يأنفن الدفاع عن هذه الفئة المستضعفة من بنات جلدتهن حتى لا يغضبن "سيدات المجتمع الراقي"!!.
يجب أن نضع حداً لهذه العبودية المأجورة... خادمات البيوت والطهارة والبستانيون والسائق الخاص... كلها أدوار عقيمة لا تزيد الإنتاجية ولا تبني الأوطان، وإنما تنشر التحلل الأسري والأخلاقي في المجتمع وتعمل على إفساد الطبقة العاملة، فتحيلهم إلى طفيليات متواكلة تقتات على فتات الموائد وتستدر عطف الأسياد.
ونحن بدورنا نأمل أن يحظر المشرع العربي والإسلامي مزاولة هذه الأعمال الشريرة فيقطع على القوى الأنانية دابر الاستغلال والطمع في تحقيق الكسب غير الشريف، ويحارب كل صور التمييز الطبقي بين أبناء الأمة الواحدة المصطفاة للناس أجمعين ويقر حقوق الإنسان في مجتمعنا المسلم الخير أياً كانت جنسيته أو جنسه أو عرقه.
وحسنا فعل المشرع العربي في بعض الدول التقدميّة عندما جرّم هذا المظهر البغيض من مظاهر عبودية النساء المأجورة، كما جاء في التشريع الليبي: "أبناء المجتمع الجماهيري يرون في خدم المنازل رقيق العصر الحديث، وعبيداً لأرباب عملهم، لا ينظم وضعهم قانون ولا يتوفر لهم ضمان ولا حماية. يعيشون تحت رحمة مخدوميهم ضحايا للطغيان، ويجبرون على أداء مهنة مذلة لكرامتهم ومشاعرهم الإنسانية تحت وطأة الحاجة وسعياً للحصول على لقمة العيش. لذلك يحرم المجتمع الجماهيري استخدام خدم المنازل، فالبيت يخدمه أهله".
كذلك يقع على كاهل حكومات العمالة المسخرة أن تتقي الله في أبنائها وتتعفف في طلب الرزق، فتغلق باب الشيطان وحياة الغربة والتسول، وتنصرف إلى إنماء اقتصادها الوطني باتجاه استيعاب المزيد من العمالة الوطنية في المصانع والحقول، فهي أحوج لطاقات العمال وسواعدهم الفتية... والله فوق الجميع.
ماجستير في قانون الاقتصاد الدولي وحقوق الإنسان - بريطانيا
sociolegaloffice@yahoo.com