كم يشبه هذا الربيع.. سيارة العرس في اليوم التالي للزفاف..كل الورد المعلق على النوافذ والأبواب لا معنى له بعد أن تركه الفرح...
**
كلما تجرّأت نسمة الغروب وأحضرت لي ملخصاً من رائحة العشب المحيط بدارنا ، تذكّرت الحارة بكل تفاصيلها..دخان الطابون المتصاعد بوقار كغليون في فم عجوز، البيوت المتروكة من غير سياج ، «فطابيل» المطاط العالقة بين جدارين ، الطائرة الورقية التي لم تطر يوماً أعلى من الخزان ، صوت أجراس الحلال وهي تأكل العشب المحيط بالسناسل ،وتركترات الــ» volvo» بمداخنها الطويلة..
كلما أشعلت ضوء العريشة بعيد المغرب ، تذكّرت جلسة «تالي النهار» امي والجارات ، لا أدري كيف اخترن مكاناً يشبه قلوبهن ، لم يكن منحازأ لأحد ..كان المكان مجرّد مضغة خضراء توزّع الطريق الى مداخل البيوت جميعها.. ابريق من الشاي يكفي للضيافة أو بعض «الكزبرة» البريّة التي قامت انشطهنّ بجنيها في إحدى الأمسيات...
براعم التوت على غصون الشجرة تشبه «البُكلات» على جديلة طفلة...وأحبال الغسيل تتشابه بين البيوت في طريقة العرض والمدّ والمحتوى، المزاريب صائمة عن البوح ، والحمام يمارس هديله اليومي على اطراف جسور الخشب النابتة من سقف الطين، في ذلك الوقت لم تكن الحياة معقدة كما الآن ولم تكن الجدران عالية بين البيوت كما الآن..
حتى الدجاج كان أكثر انتاجا وراحة وأخلاقاً..في الحارة ينتشر الدجاج بين البيوت وفي ساحات الدور وعند المعالف ..كانت الجارة تعرف دجاجات جارتها على اللون والشكل والسلوك حتى لو صادفتها على مرمى حارة ثانية، باختصار لأنها شهدت نشأتها منذ كانت بيضة، وحضرت على «تقعيد القٌرقّة» والتفقيس الى ان أصبحت دجاجة بيّاضة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ..
كلّما تجرأت نسمة الغروب واحضرت لي ملخّصاً من رائحة العشب المحيط بدارنا، تذكّرت عندما كان الربيع متاحاً ومجانياً وطيباً كغناء أمي قبل النوم... تذكرت حاكورتنا التي كانت تنبت كل شيء، الخبيزة والرشاد والكزبرة والبصل والفول والباميا مجرد ان تنحني لها امي ... الآن لم تعد تنبت حاكورتنا سوى «تنك السمن الفارغ وصناديق الفلين المكسّرة»..
كلما تجرات نسمة الغروب واحضرت لي ملخصا من رائحة العشب المحيط بدارنا...تذكّرت أن الربيع ليس فصلاً في كتاب السنة...الربيع فهرس الأشياء.. الرأي