غيّب الموت أحد رجالات الأردن المعدودين، الذين سجلوا إحدى صفحات النضال الوطني منذ مطلع القرن المنصرم، عندما كانت المنطقة تخضع لتجاذبات سياسية وتيارات متصارعة، وكانت جموع الشباب تبحث عن هويتها الضائعة، بعد رحيل جحافل الاستعمار التي حولت العالم العربي إلى يباب.
ولد يعقوب الزيادين في قرية «السماكية» الكركية التي تشبه جميع قرى الأردن الأخرى التي دفعت بأبنائها إلى معترك الحياة الصعبة بعصامية ورجولة، وجعلتهم يشقون طريقهم بقوة في خضم الفقر وقلة ذات اليد، ولكنهم أصبحوا أطباء ومهندسين ومحامين، ورجال سياسة وفكر، يحملون هم أوطانهم وشعوبهم بهمة عالية ورجولة تستحق التقدير.
الدكتور يعقوب زيادين أكمل دراسة الطب في بيروت، وانضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الأردني في وقت مبكر، واستطاع أن ينجح في الانتخابات البرلمانية الأردنية العام 1956م عن مقعد القدس، في سابقة تستحق التدوين، تشير إلى مستوى النضج الشعبي والشعور الوحدوي المفقود في هذه الأيام رغم تقدم المستوى العلمي وارتفاع منسوب التعليم عشرات الأضعاف إذا تم مقارنته بفترة الخمسينيات، وكان زيادين رجلاً صلباً وشخصيته قوية في فكره ومسلكه، حيث أصبح أميناً عاماً للحزب.
دخل السجن معتقلاً سياسياً ومكث عدة سنوات زادت من رصيده الوطني والسياسي، ولم تنل من عزيمته وبقي مناضلاً شرساً عن مبادئه وفكره، وبقي محلاً للاحترام والتقدير من مؤيديه ومعارضيه، ويروي في مذكراته كيف أقام وزملاؤه حفل استقبال في سجن الجفر للاستاذ محمد عبدالرحمن خليفة المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن في أواخر الخمسينيات.
نحن جميعاً بحاجة إلى بناء ثقافة جديدة مهما اختلفت مشاربنا وميولنا الفكرية ومهما اختلفت مساراتنا السياسية، من أجل أن نغادر مربعات الفكر الإقصائي، ونغادر مربعات التنافس الأيدولوجي، من أجل الانتقال إلى مرحلة جديدة مختلفة نخلق فيها آفاق جديدة للتنافس تقوم على البرامج العملية، والتنافس في امتلاك القدرة على حل مشاكل مجتمعاتنا، وتحقيق التنمية الشاملة، بغض النظر عن الفكر والمعتقد، ومن أجل صياغة معايير الفرز والاختيار القائمة على القوة والأمانة، والحفظ والعلم، التي لا ترتبط بتوجه ديني أو مذهبي.
وأقول بعد أن سلخت الأحزاب ما يزيد على نصف قرن من عمرها في التبشير بفكرها ومبادئها، أن تنتقل نحو آفاق جديدة وثقافة جديدة تقلل مساحات التوتر والاختلاف الذي يصل إلى درجة حمل السلاح واستباحة القتل استناداً إلى منهجية سقيمة تقوم على مقولة: أنا وحدي أمتلك الحقيقة والصواب وعلى منهجية إبعاد الآخر وإقصائه ونفيه من الوجود واحتكار السلطة والقرار والفكر والحاضر والمستقبل، تلك السياسة التي أثمرت ضعفاً وتفرقاً وتخلفاً وانحطاطاً فكرياً وسياسياً، ومذابح ودماء وأشلاء، وأفقاً مسدوداً وهبوطاً إلى قاع لا نهاية له. الدستور