على رغم فظاعة ما جرى في سجن الموقر بتاريخ 14/4/2008، وهو ما نجم عنه موت ثلاثة سجناء حرقاً، وإصابة العشرات؛ إلّا أنّ هناك ما هو أفظع مِنْ كلّ ذلك. والأفظع هذا، هو التعقيبات التي تناولت الواقعة الجسيمة. فالتعقيبات تلك، ولاسيّما ما ظهر على المواقع الإلكترونيّة الإخباريّة، جاءت مجيءَ خرقٍ لسقف العقل، مِنْ غير تعسّف أو افتئات؛ فهي برّرّت ما جرى في السجن على نحو ما أنكرت على السجناء احتجاجَهم، وسلخت عنهم آدميّتَهم بقدر ما سوّغّت قمعهم.
فلم يتورّع البعض عن إنزال السجناء منزلةَ الأنعام، فهم "ذئاب" مِنْ غير شكّ أو استدراك. ولم يوارب آخرون في أنّهم "حثالة" ويستحقّون ما جرى لهم. وحمل بعض المعقّبين احتجاجَ السجناء على محمل "الإجرام والزعرنة"، وردّوا "الإجرام والزعرنة" هذين إلى "الطبع" العنيف المتأصّل فيهم، وليس لتحسين ظروف سَجنهم. ونعتْ طائفةٌ مِنَ المعقّبين على "القوى الأمنيّة" تساهلَها مع السجناء. وبعضهم شكرها على صنيعها، ووجّهوا "التحيّة" لها، وهي ردّت على "التحيّة" بـ"أحسن منها"؛ فحالت، في اليوم التالي للحوادث، بين مندوبي "المركز الوطنيّ لحقوق الإنسان" وبين زيارة سجن سواقة الذي امتدّت أحداث الاحتجاج إليه، (وتقرير المركز الوطنيّ عن حوادث الموقر مرّ مروراً كريماً في صحافة النضال والممانعة "وتمّ ويتمّ ولافتاً ومردفاً"). فإذا "انتقد" أحد المعقّبين "القوى الأمنيّة"، كان باعثه على ذلك هو "عدم تطبيقها الحكمَ الشرعيّ" في السجناء، أي الإعدام. وهذه كلّها استعارات، بل كنايات عن سورياليّة المشهد. وهذا على رغم أنّ السجناء ليسوا "اليهود"، ولا عملاء الإمبرياليّة والاستكبار العالميّ، ولا هم حتّى "اليبراليّون الجدد".
وبلغ خرق سقف العقل مبلغاً معلّى حين رأت "لجنةُ" الحريّات بمجلس النوّاب رأيَها في الأحداث إيّاها؛ فهي تحفّظت، ساكنةً ومطمَئنّةً، عن تقرير "المركز الوطنيّ لحقوق الإنسان"، ووصفته بـ"المتسرّع" و "غير المنصف". وهنا تحديداً، تلتفّ الحيّة على نفسها؛ فالسلطة التشريعيّة المفترضة، التي تسنّ السنن والقوانين (أي الحقوق) وينوب نوّابُها منابَ "الشعب" والعبارة عن مصالحه وحقوقه؛ تقوم مِنَ السلطة التنفيذيّة، والحال هذه، مقامَ الذراع والظهير و "محطّة التقوية"؛ هذا على رغم بعد الشقّة بين السلطتيْن، وعلى رغم الأعراف المعروفة والسنن الجارية والقاضية بتنصيب البرلمان حارساً على شطط الحكومة. فإذا به في ظلّ "القضاء العادل والنزيه" والمسترخي الذي يشعّ عدالةً ونزاهةً، يشرعن أفعال السلطة التنفيذيّة، ويندّد بأصحاب الوعي الحقوقيّ والإنسانيّ، بل ويحرّض عليهم. وهذه كلّها قرائن ساطعة على التدجين السياسيّ مِنْ وجه، وعلى الفراغ الحقوقيّ والدستوريّ، مِنْ وجه آخر، وعلى الخواء الثقافيّ والإعلاميّ، مِنْ وجه ثالث.
ولكنّ هذا كلّه قد يستوي في مستوى النوافل أو الزوائد. وأمّا ما ينبغي أنْ يدبّ الرعب في أوصال كلّ ذي عقل فهو تبرير الموت، واستسهاله، بل ومديحه، وسلكه في سلك الأحداث "العاديّة". فكأنّ الوحوش التي تسكن دواخلنا تستظلّ احتمالَ وقوع حوادث القتل لتصدع بصراخها وفحيحها، مِنْ غير خجل أو تعفّف. وليست السورياليّة في رواية الواقعة والإخبار عنها وحسب، وإنّما في الاختلاف على إدانة الموت، والشكّ في أنّه كارثة إنسانيّة.
فالاختلاف على فداحة الموت، والجهر بمديحه، (والموت ضربٌ مِنَ القتل، على زعم المتنبّي)، يكنّيان (الاختلاف والجهر) عن وحشيّة لم تنفكّ تتجلّى في الخطاب الملحميّ والبطوليّ الذي يهيمن على المجتمع، وتالياً ينعكس في مرآة الإعلام. وهذا نقضٌ على أصولٍ وفروعٍ إنسانيّة تواضعت عليها مجتمعات ما بعد الحداثة. والأصول والفروع هذه، كانت إيذاناً بإلغاء "حكم الإعدام". فلمّا قال القائلون بإلغاء عقوبة الموت مقالتَهم، كان نازعهم إلى ذلك أنّها تقوّض حسّ التضامن الإنسانيّ الوحيد غير القابل للنقاش، أي التضامن ضدّ الموت، وأنّ عقوبة الموت هي الأشدّ ارتكاباً؛ فلا يمكن أنْ تشرعَن إلّا مِنْ قِبَل حقيقة مطلقة أو (قوّة أو مبدأ) واقعة فوق الإنسان.
وهذا كلّه لا يعصى التعليل؛ فمدّاحو الموت هم ثمرة سنوات مديدة مِنَ الأدلجة "الوطنيّة". وهذه تقتضي تقديمَ كراهية أعداء الوطن على حبّ الوطن، وإحلالِ هذا في تلك. والأغاني "الوطنيّة" إحدى الآيات المتكاثرة على ذلك؛ فهي تقدِّس السلاح والقوّة والأقوياء وتندّد بالضعف والضعفاء، وتُنصّب السلاح عَلَماً على الوطنيّة، وتُنزل البشر منازلَهم وترتّبهم على مراتب حربيّة؛ فالوطنيّ هو مَنْ يحمل السلاح، وهو حامي الحمى والذائد عن البلاد ("الوطن" في المرايا الإسلاميّة "ثغر وأرض حشد ورباط"، وفي القوميّة "ساحة"، وفي "الوطنيّة" مقبرة للغزاة، وفي مقالة الممانعين "وحل"، وهذه آراء عجيبة وسورياليّة أيضاً في "الوطن"). والسلاح هو زينة الرجال، والسلاح في يد المرأة يجرح، والمؤمن القويّ خير مِنَ المؤمن الضعيف، بحسب فقهٍ لا رادّ له ولا ناسخ ولا إعادة تأويل.
وعليه، كان لا بدّ أنْ يمهّد كلّ ذلك لـ"عاديّة" الموت والقتل؛ فلا جُناح عند معلقين على عمون حين تُسفَح كرامات، وتُهان نفوس، ويُحرَق بشر، ويُمدَح احتراق اللحم الآدميّ على رؤوس الأشهاد، مِنْ غير قشعريرة أو ارتجاف.
hisham@3c.com.sa