يعقوب زيادين .. ليست النهايات
ناهض حتر
05-04-2015 10:46 PM
** " .. مات المناضل المثال"؛ فهل يبكيه الدحنون الأحمر، أم يبتهج بلقاء الرجل العنيد والأرض الحبيبة؟
أعرف الدكتور يعقوب زيادين، منذ وقت لا أستطيع تحديده، أي أنني لا أعي، بالضبط، متى سمعت باسمه، لأول مرة، في طفولتي. وكان الأطباء المناضلون، مثل د.زيادين ود.منيف الرزاز، ود.عبد الرحمن شقير، قد اخترقوا وعيَ الأحياء الشعبية، ومثّلوا، لدى الناس، قيماً جديدة للرجولة، تستحق التبجيل، بصفتهم رموزاً للتفوق الأخلاقي. ويا للأسف أن المناضلين بعد حقبة الخمسينيات والستينيات، ظلوا حبيسي النادي السياسي، ما عدا استثناءات محدودة لم تستطع أن تقدم نفسها كنماذج أخلاقية مهيمنة؛ بينما برزت، بالمقابل، النماذج السلفّية. ولكن هؤلاء شيء آخر، ولهم قصة أخرى.
عرفت إذن، وفي غبش الوعي الطفولي، الدكتور زيادين، وعرفت أنه «شيوعي». فمن هو الشيوعي؟! إنه طبيب وانسان رؤوف ويعالج الفقراء مجاناً من دون أن يستعلي عليهم، بل إنه يصادقهم ويحدّثهم، ويشجّعهم. وهو وطني، ويدافع عن البلد، ويتحدى الحكومة، وعنده قدرات خارقة في الصمود أمام بطشها. وكان هذا هو الساحر في شخصية زيادين: الجمع بين تحدي الحكومة وصداقة الفقراء، بين العناد والصلابة إزاء الأقوياء، والرقة والتسامح إزاء الضعفاء، وبين التميز المهني والاجتماعي واتّقاد المشاعر الوطنية والشعبية.
كنا نسكن في حيّ وادي السرور على مقربة من جسر الحمام، ويليه شارع الملك طلال، حيث عيادة الدكتور زيادين التي طالما تشوّقت لزيارتها، وأنا أمرّ في الشارع، وأنظر، بمشاعر متأججة، إلى اليافطة الصغيرة السوداء، وعليها اسم الدكتور. وقد دخلتها، بعد وقت طويل، العام 1977، حين ذهبت إلى “الدكتور”، أسلّم عليه، وأرجو معالجتي من آلام شديدة نجمت عن تعرضي للضرب المبرح بالعصيّ أثناء اعتقالي.
كانت شمس الخريف تأتي من نافذة العيادة خفيفة بالكاد تضيء وجهه السمح. وكان عطوفاً معي كأب. شجعني وهوًّن عليّ. وعندما شرحت له ما حدث معي قال: «الوحوش».. وكأنه تذكّر، في لمحة واحدة، مقاطع من التعذيب الجسدي الذي عرفه في المعتقلات.
أنموذج د.زيادين هو الذي شدّني للاقتراب المبكر من الشيوعيين. ولم يكن ذلك عن طريقه؛ ففي النصف الثاني من السبعينيات كان الحزب الشيوعي موجوداً في كل مكان. وفي مدرستي في الأشرفية (ثانوية حسن البرقاوي) كان في صفّي، وحده، ثلاثة طلاب شيوعيين،منهم اثنان من "الجناح القومي"، وواحد من " الجناح اللينيني"!
وفي السنوات الطويلة لصداقةٍ كان لها في قلبي، دائماً، ذلك الوهج الفريد، ظل د.زيادين (أبو خليل)، عندي، فوق كل اعتبار سياسي، وخارج الخلافات، وفوق المناقشة.. فهو ليس، حسب، رفيقا، وليس ، حسب، قائدا شيوعيا مؤسسا، وإنما، قبل ذلك وبعده، زعيم وطني أردني، ما برح حسين باشا الطراونة، ينبض في قلبه.
وحين أصدر الدكتور زيادين، مطلع الثمانينيات، كتابه «البدايات».. هزني من الأعماق هذا الكتاب البسيط الذي يصوّر حياة مناضل تَمثل القيم الإنسانية العميقة للتراث الأردني والطوبى الشيوعية. لم أبحث، في الكتاب، عن «تحليل ماركسي» للمجتمع الأردني، لاحظ النقادُ، غيابَهُ، فما كان يهمّني؛ وهو، عندي، الجوهري، فتلك الأحلام بحياة أجمل.. وذلك الشوق إلى التوحّد مع أوجاع البشر واحزانهم، وتمثّل آمالهم والنضال من أجل تحقيقها، وتلك المحبة الحميمة للبلد وأهله.
لقد ألهمني كتاب زيادين، «البدايات»، قصيدةً طويلة ما زالت «تعيش» في وجداني. لقد تابعت د.زيادين الشاب، وهو يغذّ الخطى إلى مكتب الحزب الشيوعي اللبناني في «الخندق الغميق» في بيروت، ليحصل على منشوراته، ويرى، من خلالها، العالم الجديد الموعود. وتأملت تلك اللحظة من الوله بالاكتشاف، كأنني أتأمل جوهرة مشعّة فريدة.
أصبح منزل د.زيادين، في عمان الثمانينيات، منتدى ثقافياً وسياسياً لليساريين والوطنيين. فبينما كانت الأحكام العرفية تطبق على حياة عمان، وتغلق الأبواب والنوافذ أمام مئات المثقفين التقدميين والوطنيين الطامحين إلى التعبير عن أنفسهم، والتواصل فيما بينهم، والمشاركة في العمل العام .. كان منزل د.زيادين الكريم والودود والمتفهم، ملتقى لهؤلاء. وبغض النظر، عما إذا كان زواره من الشيوعيين أو من سواهم من المثقفين والحزبيين والنشطاء النقابيين، فقد كان أبو خليل يهلل لزائريه الكثيرين، يستقبلهم بابتسامة عذبة وعبارات الترحيب والمودة متمسكاً بكل تقاليد الضيافة الأردنية! ولطالما كانت تلتقي، عند «الدكتور»، مجموعات مختلفة من خلفيات حزبّية واجتماعيّة وثقافية متعددة؛ تزوره للسلام، أو للنقاش، أو لترتيب نشاط سياسي أو ثقافي؛ فلم يكف أبو خليل ، لعقود طويلة، عن أن يكون مركز الحركة الوطنية والثقافية والنقابية.
لقد كان د.زيادين قطباً للحركة الوطنية الأردنية في الثمانينيات. وهذا «الدور» ربما كان، من وجهة نظري، أهمّ من الأدوار النضالية العالية التي لعبها في الخمسينيات، بما في ذلك نشاطه المرموق في القدس، وانتخابه عنها عضواً في البرلمان.
وفي الثمانينيات، لم يعد أبو خليل شخصية شيوعية أو حزبية فقط، بل قائداً وطنياً يحظى بالاحترام والتقدير من كل أطراف الحركة الوطنية والمثقفين. وكان «الدكتور» يدعو، بصورة منتظمة، إلى لقاءات ثقافية خصبة يحضرها عشرات المثقفين التقدميين من مختلف الاتجاهات، حزبيين ومستقلين. وكانت هذه اللقاءات تُعقد للحوارات الحرة، أو للتنسيق النقابي، أو تكريماً لزوار عرب كبار (أذكر منهم المفكر المصري اليساري محمود أمين العالم))
وكان «الدكتور»، في كل هذه المناسبات جميعاً، مضيفاً كريماً، واسع الصدر، لا يتحيز لرأي، ويتيح للجميع، التعبير بحرية عن آرائهم.. بما في ذلك المناقضة للاتجاهات الحزبية المقررة. وكانت تلك، نافذة طيبة الأنفاس والأضواء في جدار التزمّت.
وعندما أتذكر، الآن، تلك الفضاءات التي كانت تنفتح لي، وللآخرين، في منزل الدكتور، أشعر بالامتنان العميق له، ولزوجته الكريمة المناضلة سلوى التي كانت تشرف على كل تلك النشاطات واللقاءات والولائم، بروح الأم والرفيقة.. وزوجة القائد في آن معا.
أقبّل يديك يا أم خليل، لكلّ لحظة أعطيتِ فيها قائدنا، الحب والحنان والمساعدة على تكوين مثاله الفريد، كزعيم شعبي.
وما زلت أذكر ذلك الصباح المشرق، في أواسط الثمانينيات، حين كان الزوجان الرائعان، أبو خليل وأم خليل، في استقبالنا؛ هاشم غرايبة الخارج من السجن تواً، وعصام التل وسعود قبيلات وخالد مساعدة وأنا. وكنا قد قضينا الليل كلّه في رحلة إلى الطفيلة ومنها، حيث اصطحبنا هاشم معنا... حراً. وقد ألحًّ على زيارة «أبو خليل»... قبل أن يواصل إلى «حوارة».. للقاء والديه !
....
لقد كان منزل أبو خليل...محجّاً لأجيال من الوطنيين الأردنيين، وراية للنضال، ومصدر اعتراف بالشباب الصاعد، وملجأ لكل كرب، وميدانا لكل فكرة.
***
ما حدث في الـ 1989...كان عاصفاً. لقد انهارت حقبة كاملة. ومضى بعض الوقت، قبل أن نكتشف أنه كان تطوراً إلى الوراء! فالانتقال إلى الليبرالية، تمخّض، وما يزال، عن آليات لامتصاص المثقفين في الطبقة الحاكمة ومؤسساتها. وبالتوازي مع إفقار الريف والفئات الشعبية، جرى إفقار الحركة الوطنية من الأطر القيادية والدماء الشابة، ووصل البلد إلى طريق مسدود من الانقسام بين خيارين؛ ليبرالي كمبرادوري..وسلفي توطيني رجعي. وإلى أن يلمع البرق ويدوي الرعد من جديد، يظل منزل “أبو خليل”.. منارة للقلوب الجريحة.
وهو ظل، في كل لحظة من حياته، منارة؛ كان تلك السنديانة التي أعادت لنا الثقة بعد مؤامرة حل الاتحاد السوفياتي؛ بل أصر، مبكرا، أنها " ليست النهايات". في هذا الكتاب، وعنوان الكتاب يلخصه، ويلخص ارادة الرفيق «ابو خليل» المشعّة بالتحدي،«1» عودة الى عنوان كتاب زيادين الأول: «البدايات» الصادر اواخر السبعينات ويستعرض فيه تجربته الحياتية والدروب التي قادته الى الحزب الشيوعي الاردني ونضالاته «2» وكذلك الاصرار على المبادئ والاهداف التي عاش من اجلها ابو خليل، وناضل، وظل ، دائما، يؤمن بها ويعمل من أجلها.
بلغ أبو خليل العقد العاشر، لكنه ما يزال شاباً في روحه وانتصاب قامته ومتابعاته، وظل، حتى وقت قريب، لا يتخلف عن موعد نضالي او نشاط فكري أو سياسي، مستعداً دائماً للمساهمة، بكل قُواه، في دفع المسيرة التقدمية الى الأمام، شجاعاً، محرضاً على الفعل الثوري، على التحدي، وعلى قول الحقيقة. وهذا اضعف الايمان!
بسبب تكوينه كطبيب ــــ بالدرجة الاولى ــــ وانغماسه في النضال العملي، وتربيته الشيوعية التقليدية، لم يتحصل يعقوب زيادين، على تكوين منهج نظري يمكنه من إعادة قراءة وقائع التاريخ السياسي لبلدنا والمنطقة. وهو ما افقدنا قراءة فريدة ربما لا تتحصل لآخر عاش التجربة وحللها علمياً في الآن نفسه. لكن ابو خليل لم يفقد البوصلة ابداً. وهو يخطئ باتخاذ مواقف سياسية متعجلة احياناً لكنه سرعان ما يعود عنها فأخطاؤه نابعة من افكاره لا من مصالحه. ولذلك، فهو قادر دائماً على تصحيحها، بالشجاعة التي تليق بمناضل وقائد كبير. وهذا هو أهم الدروس التي تعلمتها من رفقته.
آخر مرة، اختلفت مع ابو خليل، بصدد كتاب وهيب الشاعر «الاردن الى أين!» وكان الرفيق زيادين ــــ الذي لم يقرأ الكتاب ــــ معجباً بالعرض الذي قدمه الكاتب، وتضمن نقداً شاملاً وجريئاً للأوضاع في الأردن، لكنه ــــ أي زيادين ــــ لم يطلع على اقتراح الشاعر القاضي بحل الكيان الاردني وإذابة الشخصية الوطنية الاردنية في «السلام الفلسسطيني ــــ الاسرائيلي» وعندما اكتشف ابو خليل هذا الاقتراح، هاتفني ــــ بكل كرمه ورقته ــــ معتذراً، وارسل لي مقالاً في نقد الشاعر، ضمنه في كتاب «ليست النهايات». ويظهر، في هذا المقال الشجاع، مرة اخرى وطنية يعقوب زيادين، ومحبته العميقة الخالصة للأردن وللشعب الاردني ولكادحي الاردن، محبة اوقف عليا حياته كلَّها، ولم يتنكر لها يوماً، وليس عن عبث أن الاردنيين، من مختلف المدارس الفكرية، يقدرون د.يعقوب زيادين، ليس فقط بصفته قائداً شيوعياً، ولكن، وبالقدر نفسه وأكثر، بوصفه زعيما وطنيا.ً
ليست النهايات حتما؛ لقد نحت الدكتور يعقوب زيادين، اسمه ونضاله وحياته، في قلب الأردن، كما نحت الأنباط، البترا.. له الخلود؛ فلمثله قال شاعر الأردن، مصطفى وهبي التل، " ولدتُ، ولسوف أُبعثُ بلشفيّا. الدحنون الأحمر يزهر هذا الربيع من أجلك أنت يا أبا خليل، سلاما يا رفيقنا وقائدنا واستاذنا وكبيرنا وسنديانتا الحمراء التي لا تموت!