لقد شرفنا المستشار في السفارة الجزائرية في عمان بزيارة إلى مركز زمزم للدراسات، وجرى حديث مطول عن آخر تطورات الوضع العربي، وتم التعريج على بعض الصفحات من تاريخ الشعب الجزائري الحديث، حيث ذكرني ببعض الأيام الخالية عندما كنت في الصف الأول الابتدائي، وكان طلاب المدرسة ينشدون في كل صباح نشيد الجزائر في الطابور الصباحي اليومي: قسماً بالنازلات الماحقات ... والدماء الزاكيات الطاهرات ... والبنود اللامعات الخافقات ... في الجبال الشامخات الشاهقات.
وما زال الصوت الجماعي الحماسي يملأ أذني بالترداد فلتحيا الجزائر فلتحيا الجزائر، لقد كان شعوراً عروبياً وحدويَّاً يملأ الجوانح والضمائر، تفتقده الاجيال في هذه الايام التي نحن بامس الحاجة اليها ،وكان كذلك يفتح باب التبرعات في صباح كل سبت، وكان الطلاب يتبرعون بمصروفهم اليومي الذي لم يكن وقتها يتجاوز القرش أو النصف القرش، وكثير من الطلاب لم يكن يملك هذا المبلغ، فكان يتبرع «ببيضة دجاج» وقد قالت له أمه خذ هذه البيضة لأن البيت كله ليس فيه قرش واحد، وكان ذلك في العام الدراسي (1962/1963) .
كانت مناهج جيدة واساتذة جيدون، وجهود مباركة، ومشاعر حقيقية ليست متكلفة، إزاء الأشقاء في الجزائر الذين كانوا يرزحون تحت نير الاستعمار الفرنسي الظالم الذي مكث فيها ما يقارب (130) عاماً، مليئة بالمرارة والسواد والمذابح التي تقشعر لها الأبدان.
يقول الأخ المستشار أن عدد الشهداء المسجل والموثق لثورة الشعب الجزائري خلال عشر سنوات من عام (1954) إلى عام (1964)، بلغ مليون ونصف شهيد ولكن هناك أعداد أخرى كثيرة ليست موثقة، حيث كانت تجري حرب إبادة لقرى بأكملها لم يجر توثيقها، وفي هذا السياق يقول: كانت القوات الفرنسية تأتي بأهل القرية ويحشرونهم في الكهوف والمغاور ثم يسدون أبوابها بالحطب والأخشاب وبعد ذلك يتم اشعال النار بها فيموتون جميعاً داخل المغارات حرقاً وخنقاً.
المعلومة المذهلة أن عدد ضحايا الاستعمار الفرنسي من الشعب الجزائري خلال المائة والثلاثين عاماً الذي تم توثيقه بلغ (12) مليون ضحيّة، حيث كانت فرنسا تمارس التطهير العرقي من جهة، وتمارس سياسة التغيير الثقافي الممنهج من أجل جعل الجزائر قطعة من فرنسا إلى الأبد.
هذا غيض من فيض، لو تم استعراض الأحداث برمتها، وما كان يرافقها من تعرية واغتصاب للنساء، وقطع للرؤوس، ووضع السلاسل في الأعناق والجر والاستعباد، وما يصعب وصفه وحصره، ومع ذلك فإن فرنسا لم تستطع تركيع الشعب الجزائري ولم تستطع سلخه عن عروبته وإسلامه، وانتفض الشعب بعد هذا الوقت الطويل وأشعلها ثورة شعبية عارمة أطاحت بجهود (130) عاماً من العمل الاستعماري الاستيطاني الممنهج، وها هو الشعب الجزائري اليوم يبني دولته الحديثة متجاوزاً كل حالات المرارة عبر التاريخ ليكون درساً بليغاً لكل الأطراف؛ درساً بليغاً لكل المستعمرين الغاصبين ولكل أنواع الاحتلال الظالم؛ أن ذلك إلى زوال، ولن يكتب له الديمومة، مهما كانت درجة العنف والقسوة والبشاعة، ومهما كان يملك الغاصبون من قوة وعدة وسلاح وتفوق، أما الدرس الثاني فهو للشعوب المقهورة والمستضعفة أنها قادرة على صناعة النهوض وامتلاك القوة وتحقيق النصر عندما تسلك مسالك النصر وتأخذ بالأسباب، مهما كانت درجة الضعف ومهما كانت المعيقات.
ما يستعصي على الفهم، وما يتجاوز سقوف الإدراك أن فرنسا حتى هذه اللحظة لم تكلف نفسها عناء الاعتذار للجزائر والشعب الجزائري بشأن هذه الصفحة التاريخية الدموية، التي تشكل بقعة سوداء مظلمة في تاريخ فرنسا والتاريخ الأوروبي بمجمله، فضلاً عن الاستعداد لتعويض الشعب الجزائري مما لحق به، ومن أجل التكفير عن خطايا أسلافهم المستعمرين، الذين كانوا يملأون بواخرهم بعظام الضحايا من أجل استعمالها في المواقد البخارية بدلاً من الفحم الحجري. الدستور