حبيبتي .. لم تعدّ عمّان مرابط خيلنا
23-04-2008 03:00 AM
حبيبتي .. يا من تنفس الصبح من شفتيك ، وأشرقت الشمس من جبينك ، وأزهر البنفسج على خديك ، وأينع الياسمين في وجهك ، كطفل قرُأت على رأسه ألف آية قبل أن ينام .
عندما عرفتك ، كنت شقي العيش بين آلاف الأولاد ، من ذكور وإناث ، تعساء بعضهم ، وبعضهم سعيد ، ولكنني حسبت إنني أسعدهم لأنك سرقت رمانة القلب ، وسطوت على الخيال في عقل عيوني ، فكنت ِ نهاية الأسماء وبداية الأشياء ، فنار العشق لم تكن بحاجة الى شرارة ، وهاهي قضيتنا تكاد تكتسب حكم القطيعة ، فلم يتدخل فيها القضّاء ولا القضاة ، لم يكن هناك سوى هديل الحمامة على نافذة البيت الذي لم يعد بيتنا ، بل تركناه جدار يبكي جدار ، وشارع يتحسر على شارع ، وأشجار تبكي أرضها ، وعائلات سيموت أبناء أبناءها وهم يسددون قروضها " للدكنجي " و" الطوبرجي " و" الإمنجي " و" الدكترجي " و" الجامعجي " .. والبنوك التي فتحت خزناتها تبيع لهم أوراق البنكنوت من مختلف العملات أضعافا مضاعفة وهم شباب ، حتى دب الضعف في مشيبهم ، وهم يكابدون لجمع بلاط بيوتهم ، وذرات تراب حدائقهم ، وحجارة أرصفتهم ، وأشجار بساتينهم ، ليسددوا المرابين في حارات بلدهم ، ويعصرون العرق من على جباههم ليمنحوه الى قبضايات الوصولات الذين يقبضون المال " خاوة " ، وليس لهم حق في قروش الأتاوة .. ولم يشرب "الأجاويد" من دلة قهوتهم فنجان سادة .!
حبيبتي :
لا تسألينني لماذا بقيت صامتا طيلة هذه السنين .. فأنا لا أملك جوابا سوى الصمت الهزيل ، ولكنني بقيت ألف سنة أسكن في " مغارة " لم يزرني فيها سائل ولا مسؤول ، ولم يهنئني فيها رجل منهم ولا امرأة بعيد ميلادي ، حتى خرجت ذات حزن ، يقودني قلبي الى بيتك ، فأوقفني شرطي على مدخل القصبة بتهمة عدم ربط الحزام ، وحرر لي مخالفة مقدارها خمسون ، والحجة إن الحزام يحفظ لي حياتي ، ونسي المسكين إنني بلا بطن لأضع عليه الحزام ، والحزام الوحيد الذي ملكته كنت أجلد به حماري قبل ان يموت من قلّة " العلف " ، وعاقبني من أجل حزام ، ولم أعاقبه يوما من أجل حرماني من الطعام .
أترين يا حبيبتي .. : تسكنين الصحراء دهرا كاملا ولا يتذكرك منهم أحد ، وتصرخين وجعا ، فجأة ، فيعرفك كل البشر ، فتصبحين وصمة العار ومرمى كل حجر .. فلا من يعزيك في الظلماء ولا من ينتصر .. هؤلاء هم ، ديدنهم قرشهم ، وكل تاريخك كذبة ، أمام بواخر أرزهم ، وصوامع قمحهم ، ومعامل الذهب في سوقهم ، وتجارة الحرير والحرائر والباطون .
حبيبتي :
أحبك .. رغم بكاء الأطفال على صدور أمهاتهم اللواتي جفت أثدائهن ، وابيضت عيونهن .. رغم الحسرات في عيون الشيوخ والمحاربين القدامى في بوادي البلاد وقراها القاحلة .. رغم ضياع التمر ، وضياع الجَمل وضياع القافلة .رغم انتشار الفئران في حقولنا ، وتسلل الضباع في سهولنا ، ورغم فقدنا في عزّ حاجتها ، خيولنا !
أحبك .. حتى بعد أن وقعت اتفاقية فك الارتباط بيننا ، بعد أن ألزمنا مجلس الحزن الوطني بالفراق ، بعد أن كدنا أن نكون شهداء الخبز والملح والعلاقة .. أحبك .. حتى حينما فقدنا في أوج مشاعر الحب والاحترام ، كثيرا من اللباقة .. أحبك رغم موت الكلام .. وانتحار الأحلام .. وغلاء تكاليف الابتسامة والسلام .
حبيبتي :
لن تكون عمّان مدينتي التي طارحتها الغرام عمرا أخرقا ، فكما رحل الفرح عن شفاه الثكالى ، سيرحل الفرح عن محّيا فتاك ، وسأطارد سراب الصحراء بحثا عن جيادي التي لن أجدها ، فدخان البنادق لا تعطر المكان ، فقد زرعنا العاصفة ، وسوف نحصد الزوابع .
لقد تغيرت " عماننا " كما لو إنها بدوية أضاعت أهلها ، أو ضيعوها " ربعها " وتلقفتها خيول الهكسوس الجامحة ، وخطفتها جحافل العمالقة ، فلبست ثوب البحر قبل ان يصنع بثلاثة آلاف عام ، لترقص للسلطان " ابوفيس" ليس حبا به ، ولكنه الضياع الذي أورثها خوفها ، من الرعاع الذين ركبوا الأصائل ، وجاءوا بالبدائل ، وقاتلوا الحضارة المصرية ، قبل ان تكون بابل .
.. وهاهي البيوت شاحبة .. ستبكي علي يوما ، حينما لا تجدني أحمل مكنسة لأنظف سلالمها .. ولا تسمع أرصفتها صوت مناداتي بائعا على " بسطاتها " ، وسوف يتحسر علي " كشك ابو علي " فلطالما تلصصت على كتب تعج بها أطاريف زوايا كوخه الأدبي ، وسينسى " فحل البصل " طعم فمي ، حينما كان يغازلني مع كرهي له على طاولات "مطعم هاشم " في الصباح.
حبيبتي :
إن أردت وداعي .. أو البكاء دقيقة على ذراعي .. فاسألي عني " حجاج " فأنا الثالث في الطابور خلف " ابو محجوب " على نافذة السفارة ، أحمل بيدي جوازي ، محروم يا حبيبتي من زواجي ، علني أعود من هناك بعد حفنة من سنين ، وأكون حينها " برجوازي " .. تقابلني أنسة فرنسية في المطار ، ملامحها شرقية ، وعقليتها غربية ، لتحجز لي أول عربة في القطار ، غير عابئة بتاريخي ، ولا بإرث أهلي وأجدادي ، فكيف لها ان تعرف إن تلك الأرض التي تقف عليها ، كانت مزرعة لجدي ، واليوم أصبحت مطار ، لا أستطيع حتى أن أقف عليها للإنتظار ، فالوقوف فيها حينها سيكلفني يا حبيبتي في الساعة ألف دينار ، أو خمسمائة دولار .. وسأتمنى حينها لو أنني على باب منزلكم مجرد غبار .
حبيبتي .. يا جمرا تكتوي به عيوني ، يا غرقا يحبس أنفاسي .. يا وجعا تتلذذ به أوصالي ، قولي لي ، هل تعرفين كائنا يبدل جلده كل عام ، غير الثعابين ، لعلني أريح الضمير الميت في حطامي ، وأكون ذاك الكائن الذي تبدل جلده ألف مرة قبل ان تودعين .
حبيبتي :
كل عام وأنت حرة ، كمهرة بريّة لا تطيق السرج ولا مهماز فارس .. كل عام وانت شمس وضاءة لا يخبو سناءك ، ولا يصفرّ ربيعك ، ولا تذبل الورود على وجهك البريء الجميل ، وستمر آلاف الوجوه أمام وجهك ، وتبقى عيناك شعلة الحياة عبر تاريخ الحياة الطويل .
Royal430@hotmail.com
الرسم الكاريكاتوري للفنان المبدع عماد حجاج (خاص ب عمون).