من عجائب مواقع التواصل الاجتماعي ؛ كالفيسبوك وأمثاله ، أن تجد لأحدهم، أو لإحداهن ما يقرب من ألف صديق وصديقة ، أو أكثر ، مع أن صاحب الحساب ليس شخصية إبداعية متميزة ؛ فلا هو بأديب كبير، ولا هي بأديبة معروفة ، ولا هو بمطرب ولا هي بفنانة ، ولا هو ببطل كرة قدم، ولا هي بنجمة كرة سلة ، أو سباحة.
وقد ذكرت بعض هذه المجالات الإبداعية بالذات ؛ لأنها هي التي تستهوي غالبية المتعاملين مع (الفيسبوك) من أبناء العرب ؛ على اختلاف فئاتهم العمرية، بدءا من الأطفال، وانتهاء بالمتقدمين في دروب العمر، ومن الجنسين في هذا الزمان.
كما أن هؤلاء الأصدقاء ليسوا ، بالضرورة ، ممن يعرفون بعضهم شخصيا ، لتبرير طلبات الصداقة الفيسبوكية ؛ من أجل التواصل ، وتبادل الأخبار الشخصية، وغير الشخصية بين أناس يعرفون بعضهم بعضا بشكل شخصي، وواقعي.
ولكن الكثير، بل الكثير جدا من الصداقات على( الفيسبوك) ، تتعدى هذا الأسلوب إلى أسلوب، يبدو أنه أكثر بساطة لدى الكثيرين ، وذلك بأن يرى أحدهم اسما ما ، فيخطب صداقته فورا، ليرد الطرف الآخر بالموافقة رأسا ، وبذلك يتضخم حساب المستخدم بعدد كبير جدا من الأصدقاء الذين لا تجمعهم في كثير من الأحيان لا معرفة واقعية سابقة ، ولا صلات قربى، ولا أواصر فكر وثقافة، ولا علاقات اهتمام مشترك، ولا زمالة مؤسسة عمل أو تعليم، ولا غير ذلك من الروابط .
من المفيد أن أذكـّر بأن عدد الأصدقاء على ( الفيسبوك) ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، لا تدل ، بالضرورة ، على تمـيز صاحب الحساب، أو نجوميته ، أو تفوقه في هذا المجال أو ذاك . كما أن كثرة الأصدقاء لا تعني أن الصداقة المتبادلة ستكون سببا للإثراء المعرفي أو الفكري، أو حتى الاجتماعي ؛ لأن كثيرا مما يتم نشره على ( الفيس بوك ) لا يزيد عن كونه كلاما مجانيا ، ونسخا من هناك وإلصاقا هنا . ولأن مصادر ذلك متشابهة إلى حد كبير، فإن التكرار يشكل سمة ظاهرة في ما يظهر على صفحات الحسابات.
***
ولعل السؤال الذي قد يكتب على حائط ( الفيسبوك ) في هذا المجال هو : هل كثرة الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن تشكل سببا من أسباب السعادة الشخصية للشخص الفرد ، صاحب الحساب ؟.
الجواب: ربما، ولكن ضمن شروط ، وظروف ليس هنا مجال بحثها .
ولكن ، ومن زاوية أخرى ،
لا أحد ينكر أن بعض ما ينشره الأصدقاء، أو أصدقاؤهم قد يشكل ضغطا نفسيا على الصديق المتلقي، إذ قد يكون هذا المنشور صادما لقناعات المتلقي العقائدية ، أو القيمية ، أو السياسية ، أو الفكرية، أو الاجتماعية .
ومما يزيد الضغط النفسي والعصبي على صاحب الحساب المتخم بالأصدقاء ، شعوره بأنه ملزم ، أدبيا ، بإظهار الاهتمام بكل ما ينشره أصدقاؤه من "بوستات" ، ومشاركات وتعليقات ، وصور ، سواء بالرد ، أو التعليق ، أو إبداء الإعجاب بمزيد من ( اللايكات ).
كما يشعر بعض مستخدمي (الفيسبوك) بالعبء النفسي، عندما يضطرون إلى التعليق على بعض الموضوعات الحساسة أو المحزنة، أو المثيرة لمشاعر الآخرين .
ومما يعمق المشكلة بالنسبة لبعض مستخدمي (الفيسبوك) شعورهم الدائم بأن أصدقاءهم ينتظرون منهم رد فعل متعاطفا، سواء عند نشرهم أخبارا سيئة ، أو عند نشرهم أخبارا متعلقة بمناسبات سعيدة ، شخصية وخاصة .
ولعل كثرة التعاطي أخذا ، وردّا ، وتعليقا ، وإبداء إعجاب على ما ينشره أصدقاء ( الفيس ) – يعمل على هدر الوقت واستنزافه، على حساب العمل الخاص أو العام ، أو القراءة الجادة، أو حتى التواصل مع أفراد الأسرة والأقارب .
إن الأمر يبدو لي ، من هذه الزاوية ، يشبه كما لو أن الواحد منا يمضي ثمانين في المئة من وقته في المقهى .. فكم من الوقت والجهد يبقى لديه، أو لديها؛ للتواصل الحقيقي مع الزوجة أو الزوج، والأبناء والبنات ، ومع الإخوة والأخوات ؟ وكم من الوقت يبقى؛ للتفرغ لقراءة كتاب أو إنجاز بحث أو حتى خلع الأعشاب الضارة من البستان .. أو .. أو .
كما أن الحساب المتضخم بالأصدقاء يسهم ، بطريقة أو بأخرى، في التعود على إطلاق الكلام المجاني الذي لا يعبر عن قناعة حقيقية ، ولا عن رأي صادق ومستقل، مما يجر إلى التردي في ما يشبه النفاق ، أو المجاملات التي لا تضيف إلى الثراء الفكري والمعرفي شيئا .
إن كل ما يكتبه الأصدقاء هو قمة الإبداع، وذروة الفكر، ويتجلى فيه ذكاء التحليل، ودفة النظر ، والإتيان بما لم يأت به الأوائل والأواخر . بل إن كل صورهم الشخصية شموس مشرقة في يوم ربيعي جميل .
وعلى ذكر الصور ، هناك من ينشر على صفحة (الفيس بوك) صورة له أو لأحد ذويه، في كل دقيقة ، وعشرين ثانية ، منتظرا سيل ( الإعجابات ) والتعليقات المجانية المضمون التي سرعان ما تنهمر عليه بسيول من النفاق، فهو مـنــوّر، مشرق، ومضيء، وعين الحسود فيها كمنجة وعود، حتى لو كان بلون الأبنوس، وبرشاقة دب قطبي.
وعلى ذكر الصور، يبدو بعض المصابين بالنرجسية، وكأن جيشا من المصورين يلاحقونه في كل خطوة.. أنا الآن أشتري بطاطا ، أنا الآن في الشارع الفلاني ، أنا الآن في مطعم كذا ،أنا الآن مع فلان ، أنا الآن ، أنا الآن ، أنا الآن ... يا صديقي ، ما بقي إلا أن تقول: أنا الآن في... الحمام...
***
من خلال تصفح ( الفيسبوك ) نستطيع أن نجد الكلمة الطيبة، والدعوة إلى المحبة والتسامح، والتآلف ، والعبارة التي تشيع الإحساس بالأمل، وتدفع إلى الإيجابية في القول والعمل والسلوك .
كما نستطيع أن نرى الواعي، والعاقل، والمثقف، والحكيم، وصاحب الإيثار، والمتواضع، والظريف، والدال على الخير، والمشجع لكل ما هو نافع ومفيد .
ولكننا ، ومن خلال ( الفيسبوك ) نرى على الجانب الآخر : النرجسي ، والمدّعي ، والمتظاهر بالوعي ، والمتقنّع بلبوس الحكمة ، والمنافق السمج ، والمتزلّف ، والمتطرّف ، والمتظارف، والخادش للذوق العام ، والاتّهامي ، والفضائحي ، والمنتقص من كل أمر إيجابي ، والحاقد على الناس والوطن والحياة ، ومَنْ يدعو إلى الإخلاص في العمل ، والجد والاجتهاد فيه ،وهو يمضي ساعات العمل الرسمي مبحرا في عوالم (الفيس ) ، وما تقوله أبراج الحمل ، والعقرب، والتيس .