البعد عن العاصمة عمان ، له سلبيات كثيرة كما له بعض الايجابيات، انه البعد عن بؤرة الاحداث ، عن مراكز الخدمات ، وعن التطور في مختلف المجالات ، لكنه ايضا البعد عن الضوضاء والصخب والازدحام والمنغصات ، وفيه راحة للاعصاب الى حد ما .
نحن الذين اخترنا العمل خارج عمان ، وفي مناطق بعيدة حتى عن المدن الاخرى ، في شركات صناعية تتمركز في الجنوب ، القلب الاقتصادي للاردن ، الذي كان يتوقع له ان يشهد هجرة اليه ، لكن ذلك لم يتم ، بل ازدادت الهجرة في الاتجاه المعاكس ، بعد ان زادت مغرياتها ، تمر علينا احيانا فترة طويلة لا نزور فيها عمان ، وغالبا ما تكون الزيارة قصيرة ، تتم وتنتهي في نفس اليوم ، اما لعمل ما ، او مراجعة طبية ، او بضغط عائلي لتغيير الجو ، وقد يكون أي انطباع جديد بعد أي زيارة وليد يومه واحداثه ، فلا يتكرر في يوم آخر .
في اخر زيارة لي لعمان قبل ايام ، اصابني اليأس من امكانية ايجاد حل لمشكلة السير ، حتى لو عدلت القوانين الف مرة ، وشددت العقوبات اضعاف اضعاف ما هي عليه الآن ، فالقضية نفسية واخلاقية ، فروح التحدي هي السائدة في نفسية المواطن الاردني ، وعقدة البطولة تهون في سبيل ابرازها للاخرين ، كل المخالفات والعقوبات ، والاخلاق مع الاسف انعدمت عند البعض ، والعبرة من أي حادث مأساوي يجب ان يأخذ بها الاخرون ، اما "انا" فلا يعنيني الامر .
الزائر للاردن ، والذي لا يعلم كل الحقائق ، يظن ان الوقت اثمن ما في حياة شعبنا ، الكل يسابق الكل ، والجميع يحاول اختزال الزمن ، هكذا يهيأ لمن يرى سباق السيارات في شوارعنا ، والانفعال البادية اعراضه على الوجوه ، فعند الاشارة حمراء ، يقف المواطن متوترا بنتظار تبدلها ، يهيأ لمن يراه ، انه يلعن من اخترعها ، عيونه مسمرة عليها ، فبمجرد اضاءة اللون الاصفر ينطلق كالبرق ، ليعوض زمن التوقف ، وعند الاقبال عليها ، وهي تتهيأ للتبدل الى الاحمر ، يسابق الريح كي لا تجبره على الوقوف ، فلا تضيع دقائق من وقته "الثمين" .
الالتزام بقوانين السير ، رغم علاتها ، يجعل من المواطن الملتزم اضحوكة لنفسه ، وربما لكثير من الاخرين ، في شارع الاتوستراد العريض كالمطار ، الواصل بين السويمة وموقع المغطس ، حددت السرعة "السلحفاتية" بستين كيلومترا في الساعة ، وهي سرعة غير معقولة ، لشارع واسع يعبره مواطن كل عدة ساعات ، ومع ذلك كنت اضع حزام الامان ، واسير بسرعة ثمانين بدلا من ستين ، مع بعض الاحساس بالذنب ، لكن عدم القناعة بالسرعة المحددة هي السبب ، فيأتي قلاب محمل بالرمل ، يتجاوز عني بسرعة تقارب المئة والاربعين ، وهو ينثر زهوره من حبيبات "الحصمة" الكافية واحدة منها ، وبهذه السرعة ان تتسبب بأزمة اقتصادية على الاقل ، بشرخ الزجاج الامامي للسيارة ، والمحزن حقا قدرة هذا السائق الارعن ، على التملص من الدوريات الخارجية ، لانه يحفظ مواقعها "المجمدة" في اماكن محددة ، بينما مواطن عادي "غشيم" يدفع ربع راتبه ، لزيادة عشر كيلومترات عن السرعة المحددة .
وعلى طريق المدينة الطبية ، تتجاوز تريلا يقارب طولها الثلاثين مترا ، عن سيارة تقودها سيدة في اقصى اليمين ، فيقتلع باب السائق ليطير في الجو، وتهرب السيدة منه الى الرصيف لتستقر هناك ، فاي مبرر لسائق تريلا ان يتجاوز عن السيارات الصغيرة في شارع مزدحم ، هل هو ذاهب الى الجبهة للدفاع عن وطن يتعرض لغزو ؟
لا عيب في القوانين ، فقد غطت كل الثغرات ، لكن العيب هو في التطبيق الغير فعال ، المواطن المستهتر لن يودع الاستهتار الا بثمن ، العقوبة الرادعة ، والاحساس بان هناك من هو له بالمرصاد ، تواجد الاخوة افراد الدوريات الخارجية ، في نقاط شبه ثابته لن يفيد ، اننا بصراحة بحاجة الى دوريات متخفية ، تنتقل في كل ارجاء الاردن ، من الحمة حتى رحمة ، ومن الصافي حتى الصفاوي ، بحاجة الى خط احمر للابلاغ عن أي مستهتر ، فتتولى اقرب دورية متخفية ، التحقق من صحة الشكوى ، حتى يرتدع كل مستهتر ، ونحفظ كرامة الملتزمين ، ونزيد من اعدادهم ، انها قضية وطن وشعب ، وأرواح بريئة تزهق ، تستحق منا العناء ، حتى نكون جندا أوفياء ، للقائد الذي يعيش معاناتنا ، والذي كان اول من اطلق النداء ، لخوض هذه المعركة المشرفة .
m_nasrawin@yahoo.com