يغرق الاردن منذ سنوات -كجزء من العالم الاسلامي- في محيط من اللغط الذي أثارته موجة التطرف والارهاب التكفيري، والصراع المذهبي، التي ضربت المسلمين، ومزقت شملهم، وجعلت بأسهم بينهم شديداً. وسبب هذا اللغط، أن كل فريق منهم يستند الى مجموعة من التفاسير والمقولات والفتاوى لتبرير سلوكه، ولإضفاء الشرعية على مواقفه، بدعوى أن ما يستند اليه من تفاسير ومقولات وفتاوى هو صحيح الاسلام، وأن ما سواه تشويه وتحريف للاسلام، وصولاً الى اخراج المسلمين لبعضهم البعض من الملّة. فما هوالمخرج من هذا الصراع الذي ألقى بظلاله علينا، والذي كثيراً ما اخذ شكلاً دموياً؟
إن الجواب عن هذا السؤال يقودنا الى القول: إننا صرنا بحاجة ملحة لمراجعة كل هذا الذي نستند اليه، ونختلف بسببه من تفاسير وفتاوى، مراجعة نقدية جماعية، مما يدفعنا الى الدعوة الى قيام «جماعة نقدية» تضم في صفوفها خبرات وتخصصات في شتى مجالات الحياة، وحقول العلوم الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والفلسفية، والطب، والفلك، والقضاء، والفقه الذي يجب ان يستند الى سائر العلوم.. خاصة في جانب المعاملات، لتتولى هذه الجماعة فحص وتمحيص هذا الكم الهائل من التراث الفقهي الذي مازال يحكم حياتنا المعاصرة، بالرغم من ان الجزء الاعظم منه كان وليد أزمنة غير زماننا، وظروف غير ظروفنا، واحوال غير احوالنا، مما يستدعي اعادة النظر به انفاذاً للقاعدة الفقهية التي تقول: «تتغير الأحكام بتغير الأحوال».
وحتى تُؤتي عملية فحص التراث وتمحيصه أكلها، فإن على الجماعة التي نقترحها ان تبدأ من أن «لا» شيء مقدساً، الا كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما عدا ذلك من تفاسير وشروح وفتاوى واقوال، فانها ليست اكثر من فهوم بشر، واجتهادات أناس اصدروا ما صدر عنهم من تفاسير ومقولات وفتاوى، واتخذوا ما اتخذوه من مواقف، على ضوء ما توفر لديهم من معطيات ومعلومات، وما وصل اليهم من علوم ومعارف، وبما كان يحكم زمانهم من علاقات دولية، وكل ذلك بالتاكيد مختلف عن كل ما في عصرنا من معطيات وعلوم وعلاقات دولية، مما يوجب علينا اخضاع كل هذا الذي وصل الينا لإحكام العقل والمنطق، وفق معطيات العصر، لنأخذ منها ما ظل صالحاً لزماننا، ونضع ما صار منها غير ذلك في المكان اللائق به في ذاكرتنا الحضارية، باعتباره مرحلة من مراحلها.وهذا يعني ان نرجح كفة العقل على كفة النقل، لنتمكن من التعامل مع تراثنا الفقهي بعين ناقدة قادرة على الغربلة والتمحيص، ونحن في ذلك نمتثل لأمر القرآن الكريم باستعمال العقل وعدم التذرع بالأولين لتبرير اخطائنا وخطايانا.
واذا كنا ندعو الى قيام جماعة نقدية تدقق النظر في تراثنا، ومن ثم تجدد خطابنا الديني، فإن من الاولى ان تمتد مهمة هذه الجماعة الى واقعنا المعاصر، فتنظر وتدقق في سائر مكونات منظومتنا الحياتية، واول ذلك نظامنا الاجتماعي بكل مكوناته من بناء اسري، ومنظومة سلوك وتقاليد واعراف، لنرى:هل يسهم هذا النظام في صناعة تخلفنا الحضاري؟وما هي جوانب الخلل فيه وكيف نصلحها ؟.
وبالتزامن مع النظر في نظامنا الاجتماعي، لابد من النظر الناقد لنظامنا التعليمي، لمعرفة الى أي حد يخدم حاجتنا الى النهضة، والمشاركة في عملية التدافع الحضاري، وهل مناهجنا التعليمية قادرة على اعداد علماء في شتى المجالات؟ ومن ثم، هل استطاع نظامنا التعليمي إيجاد اجواء البحث العلمي في مجالي العلوم الانسانية والتطبيقية؛ وبعد كل هذه الشكوى من مخرجات التعليم، ألم يئن الأوان لإخضاع نظامنا التعليمي لعملية مراجعة ونقد من خلال جماعة نقدية كهذه التي ندعو الى قيامها.؟
وتلازماً مع الحديث عن ضرورة اخضاع نظامنا التعليمي للنقد، لا بد من الحديث عن اخضاع منظومتنا الثقافية هي الاخرى لهذا النقد، من حيث مكوناتها ومواردها ومنتجاتها، لنعرف الى أي حد ساهمت هذه الثقافة في إيجاد وتكريس ما نعانيه من مشكلات في شتى المجالات، ذلك ان السلوك البشري هو تجسيد لثقافة الانسان، وما تبنيه هذه الثقافة من قيم ومعتقدات في هذا الانسان. ومن ثم فان اخضاع ثقافتنا للنقد يفيدنا في معرفة كل التشوهات التي اصابت سلوكنا الفردي والجماعي، ابتداء من السلوك الاستهلاكي، وصولاً الى حالة اللامبالاة التي نعيشها.
وتلازماً ايضا مع اخضاع ثقافتنا للنقد، فانه لابد من اخضاع إعلامنا لهذا النقد باعتباره ناقلاً مؤثراً في بناء خطابنا الديني والسياسي والثقافي..فالاسئلة حول الإعلام كثيرة، اهمها:الى أي حد صار هذا الاعلام خاضعاً للشرط التجاري، وما مدى تاثير ذلك كله على بناء عقلنا وضميرنا الجمعيين، باعتبار أن الإعلام صار من أهم ادوات بنائهما.
واذا كان اخضاع كل ما اشرنا اليه للنقد ضرورة، فانه لا يجوز بحال من الاحوال عدم اخضاع نظامنا الاقتصادي لعملية نقد شاملة، فالاقتصاد هو المؤثر الأبرز في سائر النظم الاخرى، وافرازات النظام الاقتصادي تؤثر تاثيراً مباشراً في النظم الاجتماعية والتعليمية والثقافية، بل وفي الخطاب الديني.
خلاصة القول: إننا بحاجة الى جماعة نقدية تعُمل عقلها في كل مكونات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والعلمية والسياسية، لانه بدون هذا النقد لن نخرج من دائرة التخلف.. فالنقد من اهم اسباب الرقي والتطور والتخلص من العيوب والاخطاء، على ان يرتكز هذا النقد على الوعي، وقدرة من يمارسه على الفحص والتمحيص، وان يتميز بسعة الاطلاع وعمق الثقافة، وان تكون لديه الاستطاعة على الجمع بين القدرة على التشخيص، والقدرة على تقديم العلاج، وهذا كله يحتاج الى تكامل علوم ومعارف لابد له من عمل جماعي، يستطيع المشاركون فيه تقديم دراسات نقدية قائمة على مراجعات علمية لكل مجالات حياتنا، وبذلك نفرز الغث من السمين، ولا نكرر أخطاءَنا، ولا نقع في اخطاء من سبقونا، ونبدأ السير على درب النهوض الحضاري وطنياً وقومياً.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com