يرى الكثير من المراقبين والمهتمين أن مجتمعاتنا أقل بهجة وفرح من المجتمعات الانسانية الاخرى...وننزع الى الجدية المصطنعة في مناسباتنا التي تحمل عناوين الفرحة والاحتفال....لدرجة ادت الى اندثار الكثير من اشكال الرقص والغناء لحساب اوجه اخرى يعتقد البعض انها اكثر لياقة لتعبير الرجال عن الفرح مثل العرضة بالسيوف في الجزيرة العربية... وسباق الخيول والهجن في بعض المجتمعات العربية ..الى السامر ورقصة الدحيية التي لا تختلف كثيرا عن رقصات حفرة الموت عند بعض الافارقة.
من الصعب هذه الايام أن تشهد احتفالا في بلادنا بدون الدحيية. منذ سنوات جرى احياء هذا النمط الفلكلوري بعدما كاد ان يختفي.
في هذا النمط من الرقص الجماعي يصطف الرجال كتفا لكتف وهم يتمايلون على ايقاع صوت الشاعر او البداع الذي يغني الاشعار بنبرة تدغم الكلمات وتخفي وقعها في نغمة لا يفهمها من لا يعرف اللهجة المحلية للشاعر..ويستمر البدع الذي ينصت له الحضور وتتعالى زغاريدهم وسط حوار قد ينسجه الشاعر مع بعض الحضور الذين ما ان تذكر اسماؤهم حتى يستلون بنادقهم او مسدساتهم للاستجابة الى نخوته بهم فيطلقون صليات في الفضاء ليلهبوا حماس السامر وشاعره....واعلانا لنهاية الجولة التي قد تمتد لساعة او اكثر ينتقل الرجال من ايقاع السامر الهادي الى ايقاع الدحيية الاسرع حيث يبدا الرجال يوحوحون رويدا رويدا لتتعالى اصواتهم وحركات اكتافهم ونزلاتهم وطلعاتهم بايقاع يضبطه الحاشي الذي غالبا ما يكون الاكثر خفة ورشاقة وبحركات تتفوق في خفتها على حركات الشباب الذين يستعرضون في حالة فيها من الزهو الغريزي والعنف والاختيال الكثير.
في الماضي كانت سهرات السامر تقتصر على الافراح والليالي التي تحتاج فيها الجماعة الى التفريغ الوجداني والاصطفاف في السامر الذي يبدأ بحركات رقص رتيبة تشكل خلفية للاستعراض القصصي الشعري الذي يرد على هيئة البدع"كما يسمونه " وفيه كثير من الابداع....
يبدأ البدع عادة بالسلام على الحضور "الله يمسيكم بالخير...كيف انتم يا قاريبنا "
الى الثناء على القبائل الاخرى وشمائلهم "مار نوح يا غريب نوح....ومبارح وين المراح.....والمراح عند الحويطات...اهل البكار الوضاح" الى التغني بالعريس واستعراض سماته وشجاعته.
الدحيية هذه الايام فقدت الكثير من بهجتها و معانيها ووظائفها الاصلية لتصبح رقصات فلكلورية يؤديها بعض الشباب في المناسبات التي لا تناسب الرقصة امام الكاميرات في وضح النهار وسط جمهور لا يعرف معانيها ولا دلالاتها.
الحاشي الذي كان يحفز السامر ويضبط ايقاع الرقصات وانتقال الشباب من ايقاع بطئ الى الايقاع السريع وصولا الى حالة من الهيجان الهستيري الذي قد يضع اكثرهم حماسة على حافة الاغماء....
اليوم يوجدفي بلادنا عشرات الفرق تقتات على شذرات القصائد التي علقت في اذهانهم بعد ان جرى تحريفها لتصبح لا معنى لها.
لقد اصبح الاهتمام باللباس الموحد والحركات الاستعراضية التي ابتدعها المدربون تسمو على الحوار الجميل الذي يبدأ "هلا هلا بيك يا هلا.......لا يا حليفي يا ولد " لتصبح هولو هولوبي... الخ.
في جوانب كثير تم مسخ كثير من ممارساتنا فاصبح بعضها مكررا وممجوجا....واصبح بعضه دعائيا....وتعلقنا باشياء ظنا منا ان ذلك سلوكا اصيلا.
في ثقافتنا لكل شئ قدر ...والمبالغة في التعبير تذهب المقصد والمعنى الجميل....لذا فان الاشياء أن زادت نقصت والزايد اخو الناقص...
الدحيية في قريتنا كان لها فرسان نعرفهم دون ان يكون لهم القاب ومسميات...اما البداعين...او من ينتجون الاشعار التي يجري غناء مقاطع منها فهم حفظة اكثر منهم مؤلفين..بقي أن نشير الى وجود شابين طويلي القامات يقفان في وسط السامر ولا دور لهما الا اعادة اللازمة الشعرية بعد كل مقطع بدع شعري.
ثقافة الدحيية الجديدة اصبحت نموذجا لكثير من سلوكياتنا هذه الايام....والاحماء الذي يمارسه البعض والانتقال من ايقاع بطيء الى اسرع واعلى بتحفيز حمحمات الدحيية اثر كثيرا على المزاج العام...
كما أن البدع بمقاطع تخالف المقاطع الاصيلة للنصوص اصبح واضحا....اظن ان الفلكلور الذي يعني طرق العيش الشعبية اصبح شيئا اخر في سياق مجتمع تجارة السياحة..
الثقافة الاصيلة لها سحر وجاذبية يتفوقان على كل مظاهر التهجين التي قد نبتدعها لتلائم اذواق النظارة الجدد.