... أثارت الطلبات المقدمة من رئيس الوزراء لمجلس النواب بمنح إذن للنيابة العامة والقضاء بالتحقيق و/أو محاكمة مع عدد من النواب, اجتهادات وتفسيرات متباينة بما في ذلك تأخر المجلس بالبت في هذه الطلبات من جهة ومدى قانونية توصية اللجنة القانونية للمجلس بمنح الإذن بالتحقيق و/أو محاكمة عدد من النواب من جهة ثانية..
وأمام هذا الجدل والتباين في الاجتهادات في هذه الأيام, فانني ارتأيت تقديم تصور مهني عن هذا الموضوع والذي يستوجب بداية بيان المقصود بالحصانة النيابية, والتي هي نوع من الحماية القانونية منحها الدستور لنواب الشعب في البرلمان حتى يستطيع أن يقوم النائب بأداء وظيفتيه التشريعية والرقابية بعيداً عن تأثير السلطة التنفيذية بالترغيب أو الترهيب, والحصانة النيابية أو البرلمانية تنقسم إلى نوعين حصانة موضوعية وحصانة إجرائية, أما الحصانة الموضوعية فالمقصود بها في عدم مسؤولية أعضاء البرلمان عن أقوالهم وأفكارهم التي تصدر عنهم أثناء ممارستهم لمهامهم النيابية, أما الحصانة الإجرائية فالمقصود بها هو عدم جواز إتخاذ أي إجراءات جنائية ضد أي عضو من أعضاء مجلس النواب في غير حالات التلبس بالجريمة إلّا بعد الحصول على إذن المجلس, وهذا ما يهمنا في هذا الموضوع, وإلى جانب ذلك فلابدَّ من الإشارة إلى أنه ليس من حق النائب التنازل عن حصانته دون موافقة المجلس.
واستكمالاً لما تقدم, فإنه يتطلب أيضاً الرجوع للنظام الداخلي لمجلس النواب لبيان الأحكام ذات الصلة في هذا الموضوع, وبالرجوع للمادة (41/ج) من النظام, نجد أنها حددت مهام اللجنة القانونية بالمجلس بدراسة القضايا التي تتعلق بحصانة النواب وأن المادة (148) من النظام المذكور قد نصت على أن يقوم رئيس المجلس بإحالة الطلب الذي ورد إليه من رئيس الوزراء للحصول من المجلس على إذن بإتخاذ إجراءات جزائية بحق نائب أو نواب محددين للجنة القانونية لفحصه والنظر فيه وتقديم تقرير عنه, كما أن المادة (149) ألزمت رئيس المجلس بإحالة تقرير اللجنة القانونية على المجلس في أول جلسة تالية لمناقشة الموضوع دون تحديد مدة زمنية لذلك ويكون التصويت بالأكثرية المطلقة ولا يجوز للمجلس أن يفصل في موضوع التهمة وإنما يقتصر دوره على الإذن بإتخاذ الإجراءات القانونية أو الاستمرار فيها إذا تبين له أن ليس الغرض من طلب الحصول على الإذن تعطيل عمل النائب أو النواب مدار البحث.
وعليه, وبعد استعراض ما تقدم, فإننا نرى أن اللجنة القانونية في مجلس النواب قد جانبت الصواب عندما قامت بالتوصية للمجلس برفع الحصانة عن النواب وخالفت طلب رئيس المجلس منها لدراسة الموضوع وتقديم تقرير له بذلك, حيث أن نص المادة (148) سالفة الذكر قد حصرت دور اللجنة في فحص الطلب والنظر فيه دون تقديم اقتراحاتها كما هو محدد بالمادة (81) من النظام المتعلقة بتقديم اللجنة المختصة إقتراحاتها على مشروع القانون الذي قامت بدراسته ولم يفوضها المشرع بالمادة (148) بالتوصية للمجلس بمنح الإذن من عدمه ويعني الفحص هو التأكد من توافر النواحي الشكلية بطلب رئيس الوزراء من عدمه وذلك على ضوء ما هو محدد بالمادة (147) من النظام وأن تبين اللجنة من حيث الموضوع واقع الحال, سواء من حيث وصف الجرم والجهة القضائية المختصة التي طلبت منح الإذن وما يترتب على هذا الجرم في حال ثبوته وأن تدون ذلك بتقريرها دون توصية أو إقتراح في هذا الموضوع, كما لا يجوز لها أن تورد بتقريرها توفر الأدلة أو عدم توافرها, أو أن الفعل المنسوب للعضو يشكل أو لا يشكل جريمة لأن ذلك يعتبر تدخلاً في أعمال السلطة القضائية من وجهة نظر قضائية.
وترتيباً على ذلك أرى من وجهة نظري على المجلس عدم الأخذ بتوصية اللجنة لإفتقارها للسند القانوني لها, لكون المادة المذكورة لا تتسع لتفسيرها أكثر مما تتحمل وحجتنا في ذلك تطبيق أحكام النظام حسب الأصول وأن تبقى إرادة المجلس حرة ولا تتأثر برأي اللجنة عند التصويت على منح الإذن من عدمه.
واستناداً لما تقدم, فإنه لا محيص لمجلس النواب ولا جناح عليه إذا قرر منح الإذن للنيابة العامة أو القضاء للتحقيق مع النائب أو محاكمته ولا يعني منح الإذن أنه سيترتب عليه توقيف النائب من النيابة العامة أو المحكمة أو إدانته, إذ توجد جرائم محددة بالقانون لا يجوز توقيف المشتكي عليه فيها, كما أن الجرائم الجنحوية لا يتطلب حضور المشتكي عليه أو الظنين جميع جلسات المحاكمة بل يكفي حضوره في جلسة تلاوة التهمة المسندة إليه وبالجلسة التي تختم المشتكية أو النيابة العامة بينتها فيها, كما لا يعني التوقيف عدم تكفيل الموقوف في جرائم محددة وبالإضافة لذلك فإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته, كما أن المحكمة ستحدد وقتاً محدداً للجلسة بشكل لا يتعارض مع أداء النائب لوظيفته وأننا نرى على ضوء ذلك أن منح الإذن للتحقيق مع النائب أو محاكمته لا يحولا دون منع النائب من أداء وظيفته بشقيها التشريعي والرقابي.
وأخيراً, فإنه يمكن تلخيص ما ذكر أعلاه بالنقاط التالية:
1. وجوب تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب بحيث يلزم رئيس المجلس بإحالة الطلب المقدم إليه من رئيس الوزراء للجنة القانونية لتقوم بدراسة الطلب ورفعها للرئيس خلال مدة أسبوع لمنح الإذن للتحقيق مع النائب أو محاكمته خلال مدة قصيرة لا تتجاوز أسبوع واحد, على أن يصوت المجلس على الطلب خلال مدة لا تتجاوز أسبوع تبدأ من تاريخ عقد أول جلسة له, كما يتطلب في هذا المقام الإشارة إلى أن النظام الداخلي للمجلس يستوجب إجراء تعديلات ضرورية عليه, حيث تم كشف ثغرات وعيوب به أثناء التطبيق وذلك ليقوم المجلس بالإستناد إليه بوظيفته بشكل قانوني سليم بعيداً عن التفسيرات المختلفة ولا داعي لذكر هذه التعديلات في هذا المقال.
2. لا يجوز للجنة القانونية بالمجلس التوصية إليه بمنح الإذن بالتحقيق مع النائب و/أو محاكمته وإنما ينحصر دورها في دراسة طلب رئيس الوزراء ورفع الدراسة لرئيس المجلس ليقوم برفعها للمجلس.
3. إنطلاقاً من مبدأ التعاون بين السلطتين التشريعية والقضائية, يجب على المجلس أن يتعامل مع طلب الإذن بإيجابية ودون حساسية وبحسن نية، إذ أن معظم طلبات منح الإذن تكون ناشئة عن إقامة شكاوي من أشخاص عاديين وليست من الحكومة, لأن منح الإذن للتحقيق مع النائب أو محاكمته لا يعني إتهامه أو الظن عليه أو إدانته.
4. يجب على النائب الذي طلب منح الإذن للتحقيق معه أو محاكمته التعامل مع هذا الطلب بإيجابية، حيث أوجد قانون أصول المحاكمات الجزائية له ضمانات قانونية للدفاع عن نفسه، كما له الحق بمقاضاة وملاحقة الشخص الذي حرك الشكوى ضده، إذا تقرر منع محاكمته أو برائته وذلك من خلال تحريك شكوى افتراء عليه والمطالبة بالتعويض.
وبالختام, فإن ما أوردته أعلاه هو لغايات المعرفة والفائدة ليس إلّا ولم يتم التعرض لأي نائب إيجاباً أو سلباً أو للتهمة المنسوبة إليه وأضيف أن الحصانة ليست مقدسة أو طليقة من كل قيد أو حدّ أو عصية عن رفعها بل يوجد لها سقف وضوابط ويتعين على الجميع التقيّد بها واحترامها قولاً وفعلاً وأن أعضاء مجلس النواب بصفتهم أحد جناحي السلطة التشريعية هم أكثر حرصاً من غيرهم على تطبيق القانون واحترام القضاء والتعاون معه وتنفيذ طلباته دون تردد أو تراخٍ أو تأخير والله من وراء القصد.