كشفت توظيفات الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي، عن مرض اجتماعي هائل وكبير، وكما تسمى بعض الامراض المعروفة بمتلازمة كذا وكذا، يصح ان نتحدث هنا، عن متلازمة الفيس بوك.
من سمات هذه المتلازمة ان صاحبها يمضي ساعات طويلة وهو مشتبك مع الاخرين، فيخرج عن مدارات الحياة الطبيعية، من استمتاع في حياته، نحو التحول الى أسير لصفحته وجمهوره الافتراضي.
يصدق بعضنا ان كل هؤلاء هم اصدقاء حقيقيون، بل ان احدهم قرر الزواج، ووجه دعوة لكل اصدقاء الفيس لحضور زواجه، فلم يأت احد، فتعجب، معتقدا، ان هذا الجمهور حقيقي بمعنى الرابط الاجتماعي، الفاعل والعميق.
منح الفيس بوك، منصة اطلاق رصاص لكثيرين، وهي منصة كشفت ايضا حجم الكبت النفسي، وذلك من خلال تحليل الاراء التي تميل بالذات الى التطرف، والذي يقرأ البوستات والتعليقات يكتشف بصراحة منسوب السلطوية في كل واحد فينا، والاحكام المسبقة، وميلنا عموما الى ممارسة السلطة واطلاق النار يمينا وشمالا، باعتبار ان هذه منصة مدفعية يمكن عبرها تصفية الخصوم، ومنح شهادات حسن السلوك لمن يريد كل واحد فينا.
العرب الاكثر تحفظا، تحللوا من كل القيود الاخلاقية عبر الفيس، ولم يعد غريبا ان تنهمر الصور الخاصة، من صورة الزوجة التي ولدت للتو، مرورا بابنها الطري الذي يتم تعريضه للالاف من العيون الالكترونية، دليلا على فحولة الزوج، مرورا بكارثة مثيرة حقا، تتعلق بنشر صور الاباء او الامهات او الابناء او ذات اصحاب الحسابات، وهم في اقسام الطوارئ في المستشفيات، او تحت اجهزة التنفس الصناعي في الاي سي يو.
الاستعراض يكشف حاجة الانسان العربي للشهرة والسطوة والقوة والاستعراض حتى لو قام المرء بتصوير نفسه وهو ُمقّطع الاوصال، فالكل يعاني من تورم الذات، والرغبة بالاستعراض، والظاهرة تعكس نقصا بنيويا في الشخصية العربية، وعمق الفراغ، والامر ذاته ينطبق على تصوير وجبات الطعام، وقصص اخرى لا تفيد الجمهور، بغير كونها رسالة استعراض شخصية، وليس دليلا على التواصل الاجتماعي بفكرة مهمة.
انحدر مستوى الفيس بوك كثيرا، وقد وصلنا الى مرحلة يلتقط فيها البعض صورة والده وهو في الكفن، قبل الدفن ويطلب من الناس الدعاء له، باعتبار ان الدعاء الالكتروني مستجاب هنا، وباعتبار ان كل لحظة يجب ان توثق.
يا لها من متلازمة يسفك فيها الانسان اخص خصوصياته، الى الدرجة التي بات فيها كثيرون ايضا يذهبون لزيارة اقاربهم وارحامهم الذين رحلوا، ويتصورون قرب قبورهم وقد بسطوا اكفهم لقراءة الفاتحة، فلا تعرف كم تبقى من حرمة الراحل، ولا حرمة المكان، وكأنك امام امة فقدت عقلها، والكل فيها بحاجة الى شهرة، ولو بالتقاط صورة سلفي داخل حاوية وبثها فورا؟!.
يوما بعد يوم، نكتشف ان جمهور الفيس بوك، بدأ يتراجع من حيث مضمونه، فأغلب المشاركات شخصية وبائسة، والفكرة المهمة، والصورة الاهم، تغيب لصالح التوافه، وعلينا ان نلاحظ ان دكتاتورية جمهور الفيس بوك، اكثر حدة من دكتاتورية الحكومات والاجهزة الامنية، فالشتم او تخصيص صفحة لخصمك او المعاقبة بالبلوك مثلا لانه خالفك في الرأي مؤشر على ان كل واحد فينا ينام فيه شرطي صغير يرغب بفرض سلطته ايضا على من يخالفه في الرأي.
ظاهرة الاسماء المستعارة ايضا، تؤشر على امرين، الخوف الموروث اولا، والرغبة ببث كثير من السموم والاحقاد، دون مسؤولية مباشرة، وهذا يعني ان بيننا كثرة تعتبر الفيس بوك، سكينا لطعن الخصوم، وماء حارقا يتم رشقه على وجوه الناس، واغلب هؤلاء ينظرون علينا بالمثل والاخلاق، لكنهم يتخفون خلف صفحات مستعارة، بأسماء وصور مستعارة ايضا.
من سمات متلازمة الفيس بوك ايضا، انها تستدرج المصاب بها، لساعات، وتمنحه شعورا زائفا بأنه يشكل الراي العام، او انه ذو سطوة، يهابه الاخرون، وينامون وهم يفكرون به، وهذه مشاعر زائفة، سرعان ما تتبدد، مع مطلع كل نهار، وهذا خدر الكتروني لا يغني عن الواقع.
اسوأ ما في الفيس بوك ايضا، فرضه لانماط ذهنية محددة، ووضع الناس في قوالب ثابتة، من التعليقات الى البوستات، ومن القوالب الثابتة، التعليق بكلمة «منور» على كل صورة منشورة لشخص، والكل يعيد ذات الكلمة، اذ باتت نمطا مفروضا، اما البوستات التي باتت بمثابة نمط ثابت ايضا، التدين الالكتروني اذ يتذكر اغلب جمهور الفيس بوك الله والنبي ليلة الخميس على جمعة، فتنهمر بوستات الورع المفاجئ، فيما بقية الاسبوع تنقلب البوستات لصالح عاصي الحلاني وراغب علامة، او مارسيل خليفة في احسن الاحوال!.
والمتلازمة بحاجة لتحليل اوسع، من باب كونها اداة للاشاعة وتصفية الحسابات وغير ذلك من سمات، تجعل الفيس بوك تحت مشرط اعادة التقييم. الدستور