الكرامة خندق واحد ونصر أكيد
د.حسام العتوم
19-03-2015 12:06 PM
قال شهيدنا الغالي وصفي التل في كتابه كتابات في القضايا العربية (ص37): (فليست فلسطين، إذن، الهدف النهائي للصهيونية، وإنما هي رأس جسر لتوسعات أخرى، تقرر زمانها ومكانها عناصر القوة والضعف في مفهومها الشامل سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعلمياً وتنظيمياً، معبأة في طاقة كلية تتصارع مع طاقة كلية مقابلة في كفتي ميزان، ترجح أحدهما على الأخرى، وبالمناسبة لم يتفق وصفي مع دخول الأردن لحرب حزيران وتوقع خسارة اكثر من البشر وعاش حروب المنطقة في عهده ومنها معركة الكرامة الشامخة موضوع حديثنا الآن، وقد دفع دولته ثمن عشقه للأردن وفلسطين معاً لاحقاً، ومن هنا نلحظ كيف تدحرجت الأطماع الإسرائيلية ومن خلفها الصهيونية الماكرة عبر حرب (النكبة – 1948) و(النكسة – 1967)، وما قبلهما من وقائع عسكرية وبالتعاون مع امريكا وأوروبا وبعد افتعال مطاردة الفدائيين الفلسطينيين تجاه عمق حدود التماس مع الأردن والعمل على الاتصال بأمريكا ذات الوقت لإبعادنا عن مساندة حركات التحرر الفلسطينية وهو الأمر الذي تم رفضه أردنياً وإفشاله.
لقد حققت معركة الكرامة البطلة في يوم الأم (21 آذار) بهمة مليكنا العظيم الراحل الحسين معاني عديدة وشاركه في هذا الجهد الحربي الكبير قائده الميداني اللواء البطل مشهور حديثة الجازي وضباط آخرون أبطال امثال اللواء لاحقاً المرحوم أحمد علاء الدين الشيشاني الذي قتل بسلاحه (11) إسرائيلياً في أرض المعركة حسب قول شقيقه سيد علي والعميد لاحقاً حكم الروسان قائد سرية الهندسة الانتحارية وغيرهم إلى جانب رجالات الزعيم الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات وحشد كبير من جنود جيشنا العربي الأردني الباسل الأسود المغاوير استشهد منهم على أرض المعركة حسب كتاب معركة الكرامة اللواء محمود الناطور (74) عسكرياً أردنياً و(98) مجاهداً فلسطينياً، ولقي (250) إسرائيلياً مصرعهم رغم تمويه لباسهم من قبل جيش إسرائيل الغازي بالزي العسكري الأردني بعد أخذهم بعين الاعتبار أن الحرب خدعة فيما اعتمد الفدائيين سياسة الهجوم والانسحاب السريع وانتظار العدو يتقدم ومقابلته بالمفاجآت مع سحب القيادات الفدائية من أرض المعركة، وعليه تحقق أول نصر وطني، ولأول مرة طلب العدو وقف إطلاق النار فيما أكد الحسين ربط ذلك بانسحاب آخر جندي إسرائيلي من أرض الكرامة، ومعانٍ سياسية بعيدة المدى نلمس نتائجها اليوم أهمها قبول توقيع أولي لمعاهدة السلام مع الأردن من قبل إسرائيل بقوة الرصاص والنار، ومن ثم إعداد الأرض لتوقيع معاهدة وادي عربة عام 1994 بين دولتنا الأردنية وكيان و(دولة) إسرائيل وتحت إشراف دولي رغم ما يشوبها من علامات استفهام وتعالي أصوات المعارضة الوطنية حولها، وبعد ذلك تكرر النصر في حرب تشرين عام 1973 بمشاركة أردنية عسكرية مباشرة بهدف تحرير الجولان السورية والتي تمثلت بتحرير مدينة القنيطرة ابتداءً، ودفعت إسرائيل للانسحاب من شبه جزيرة سيناء عام 1979، ومن بيروت وجنوب لبنان عامي 1982/2000، ومن قطاع غزة عام 2005 ولم يشهد الزمن بعد ذلك على أي تطاول إسرائيلي عسكري على الأردن بعد النصر الأردني في يوم الكرامة واستمر ذلك على مد\ى (47) عاماً حتى الآن، وبهذا لم تكن هذه المعركة على أرض بلدة الكرامة التي باركها رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ووصفها بأكناف بيت المقدس حيث يرقد فيها الصحابة رضوان الله عليهم (أبوعبيدة عامر بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ومعاذ بن جبل وضرار بن الأزور) سوى مقدمة لقدرة الأردن وجيشه ومليكه من الدفاع عن أرضه وفلسطين الأمر الذي أفسد نظرة إسرائيل التي دفعت بجنرالها موشيه ديان وزير الحرب آنذاك للاعتزال بعدها رغم إعلانه بأن جيشه لا يقهر.
وفي المقابل أراد الأردن لها أن تشكل سداً منيعاً وأبدياً امام أي زحف إسرائيلي تجاهنا في عمق الزمن القادم، وحرباً دفاعية منتصرة بالتعاون مع إخوتنا أهل فلسطين وخطاً أحمراً لا يعلو عليه تلميح أو تفكير أسود فخاضها تحت شعار (الحياة أو الموت والشهادة)، وتم ترحيل المخيمات الفلسطينية من هناك إلى الوسط والشمال حماية لها من أزيز الرصاص، وجاء النصر الأكيد باسم كل العرب وتخللها قتال شرس بالسلاح الأبيض وصمود فريد من نوعه سجله جيشنا العربي الأردني الباسل وإبطال فلسطين في خندق واحد.
أكرر القول هنا بأن الحروب لا تصنع السياسة وأن صنعها الساسة، فتاريخ الصراع الإسرائيلي العربي شهد حروباً ومعاركاً عديدة وضارية وقاد إلى حلول محددة ممثلة بمعاهدتي السلام المصرية 1978 والأردنية 1994 وإلى أزمات مفتعلة مثل الفلسطينية والسورية واللبنانية، فلا زال الاحتلال جاثماً وكذلك المستوطنات على ارض فلسطين التي يراد لها أن تصبح مع تغييب حق العودة والتعويض ووضع مسالة القدس أمام سراب كما كشفت عن ذلك مبادرة جون كيري المشهورة الأخيرة والتي فشلت بوضوح بعد جولات مكوكية متكررة في المنطقة ولا زال الأمر كذلك في الجولان ومزارع شبعا ومن دون مبرر تكتيكي أو إستراتيجي مشروع، والاحتلال نفسه ليس حلاً لأي أزمة وأثبت فشله في فرض الشروط السياسية على العرب، فسوريا كما لبنان لا تقبل بمعاهد سلام مع إسرائيل بشروط تتمادى على سيادتها، وأصبحنا نشاهد بأن أمريكا نفسها بدأت تتغير وتغير في سياستها مع إيران وسوريا وحزب الله وترفع صفة الإرهاب عنهم وتدعو للحوار معهم، فلماذا لا تتغير امريكا وكذلك إسرائيل في الشأن الاحتلالي العربي فتدعو إلى التراجع عن الاحتلال ومد يد السلام الواضحة والعادلة مع العرب للعمل من أجل رفعة التنمية الشاملة الخادمة للإنسان؟
إن لم تخرج إسرائيل من أراضي العرب التي احتلتها عام 1967، وإن بقيت تمارس سياسة (القلعة) مع كل العرب وإيران فستبقى تُتهم بأنها داعماً أساسياً للتطرف والإرهاب في أوطاننا العربية والإسلامية، ومرسخة للطائفية والعنصرية والفوضى، ومورطة لأمريكا ذاتها بهكذا توجه بدلاً من أن تكون من أهم قادة دول العالم صوب السلام، وفي المقابل نريد صوتاً لإسرائيل في حرب المنطقة الشرق أوسطية ضد عصابات تنظيم (داعش) الإرهابي والمجرم رغم طابع هذه الحرب العسكرية والأمنية والأيديولوجية إسلامية ظاهرياً ففي الوضع المقابل يوجد تحالف دولي مكون من اكثر من (60) دولة، وما يمس المنطقة من خراب سيلامس حدودها وسوف ينخر إلى داخلها عاجلاً أم آجلاً، خاصة وأنها تشكل (دولة) ضاغطة ومحافظة على الفقر والبطالة والتشرد والدمار في فلسطين وتحديداً في قطاع غزة المنكوب من قبلها تحت ذريعة اختلافها سياسياً مع (حماس) ومشاكسة الأخيرة لها سابقاً لما ملكت من صواريخ يدوية غير دقيقة الهدف، وبعد إلحاقها لخسائر بشرية فادحة في القطاع وصلت لمرحلة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية، وجريمة الحرب الواجب أن تعاقب عليها من قبل محكمة الجرائم الدولية.
وتعد الكرامة بالنسبة للأردن أنها نقلت المواجهة مع إسرائيل بعد توقيع معاهدة السلام معها إلى جبهة مطاردة عصابات خوارج داعش النازية التي استهدفت بلدنا علانية بعد ارتكابها لجريمة إعدام طيارنا البطل معاذ الكساسبة حرقاً مسجلة مخالفة صريحة للقانون الدولي الإنساني ولشريعة الله المانعة للإساءة لأسير الحرب، فما بالكم أيها السادة إذا كان مسلماً ويقرأ القرآن الكريم، وهو إنسان نفذ الأمر العسكري والواجب الوطني، ولماذا يتم استهداف الإسلام والمسيحية والآثار والإنسان والتاريخ والحاضر والمستقبل والأم في هذا التوقيت بالذات في زمن الحاجة لإنهاء الحرب الباردة من طرف أمريكا ضد روسيا التي تقود سباق التسلح وتعميق الفجوة بين التنمية والتخلف على كافة المستويات ومنها الفقر والبطالة والأمية وشح وتلوث المياه والتصحر والفساد، وبهذه المناسبة الوطنية اقترن يوم الكرامة بيوم الأم التي قال فيها الشاعر حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق