رأس الدولة أكبر من رجالها
شحاده أبو بقر
19-03-2015 02:33 AM
رأس الدولة وهو الملك ، منشغل بالقضايا الكبرى ، حيث التحالفات المتغيرة والحروب المستعرة من حولنا وفي كل الإتجاهات ، وحيث المستجد الإسرائيلي عندما يتفاخر نتنياهو بأن لا دولة فلسطينية بعد اليوم ، وبأن قدس العرب والمسلمين عاصمة ابدية للدولة اليهودية ، ثم لا ينسى وفي غمرةالغطرسة والعنجهية أن يطبع قبلة على شفتي ً ساره ، ً في المقابل سياسيونا وإعلاميونا وكلنا تقريبا ودون تفصيل ، منشغلون بالقضايا الجانبية والهامشية التي لا يمكن ان ترقى ابدا ، الى ادنى حد من مستوى التحديات والمصائب المحيطة بنا من كل جانب ، والتي يتطاير شررها سياسيا وعسكريا وأمنيا علينا في كل لحظه .
نعم ساحتنا الداخلية منشغلة تماما ، برفع الحصانة من عدمها ، بالجماعة المرخصة وغير المرخصه ، بالتعديل الوزاري وجدواه ، بمن زار سورية ومن لم يزرها ، بالمحاضرات والمذكرات والتعقيب عليها ، بالجاهات وخطبة العرائس فنحن نتصرف كما لو كنا في جزيرة معزولة عن محيطها ، وكل مسألة حتى لو كانت ساذجة بإمتياز ، تأخذ منا كل الوقت في التعليق والتناحر وتبادل الإتهامات ، في وقت عصيب وحساس ومرعب ودقيق ينذر بعواقب إقليمية لا احد بمقدوره التنبؤ بمآلاتها .
يمارس الملك رأس الدولة دبلوماسية مكثفة جدا ، وفي كل الإتجاهات ، وهي دبلوماسية تسعى من أجل هدف كبير هو صون المصالح الوطنية الاردنية ، وحمايتها من اي عبث او خطر محدق ، وما اكثرها من مخاطر في هذا الوقت بالذات ، وهي دبلوماسية ذكية تنطوي على حراك مستمر موجه ومدروس ، فالملك يمارس دبلوماسية الشجاعة والرضى والعتب وحتى الغضب والتقرب والتباعد ، الى غير ذلك من النباهة التي تصب في مربع واحد ، هو ان الاردن ليس في جيب احد ، وإنما هو فقط ، في جيب مصالحه الوطنية المشروعه ، فمن اراد التعامل معنا على هذا الاساس الثابت ، فبه اهلا ، ومن اراد غير ذلك ، فلا مكان له في تفكيرنا .
تلك دبلوماسية ذكية في زمن دقيق ، زمن تتحور فيه العلاقات والتحالفات على نحو مستغرب ومتسارع ، وتتشعب المخططات على نحو مماثل كذلك ، زمن تنهار فيه دول وانظمة بلمح البصر ، وتتعدد فيه الحركات والتنظيمات كما لو كان سوقا يتبارى فيه التجار ، كل يريد هزم الآخر ، أوكما لو كنا بصدد عشرة لاعبين في ملعب واحد ، كل يقذف الكرة نحو زميله ، ولكن بأمل ان يعيدها اليه ليسجل هدفا يحسب له لا عليه .
هذا زمن صعب بإمتياز ، فلا الاردن ولا المنطقة كلها ، شهدت عبر تاريخها زمنا مشابها له ، وهو زمن يتطلب ان نرفع جميعا مستوى التفكير والتصرف بما يوازي اخطاره ، وبما يكفل لنا الخروج من هذا الشر المستفحل باقل الخسائر ، وإذا ما تشاطرنا باحسن النتائج ، ونحن اليوم بأمس الحاجة الى ذلك النمط القديم الذي كان من رجال الدوله ، الرجال الذين كانوا يسهرون على مصالح البلاد والعباد والناس نيام ، لا تفكير عندهم بمصالحهم الخاصة الا ما ندر ، عقولهم كبيرة وقلوبهم كذلك كبيره ، يترفعون عن سفاسف الامور ، ولا يقبلون إلا بكبيرها ، الرجال الشيوخ في مناصبهم وبيوتهم واماكن عملهم ، سواء أكانوا داخل السلطة او خارجها ، فالوطن عندهم حالة وجدان وضمير وخلق ، ولا مطمع ولا مطمح لهم ، سوى أن يظل الاردن قويا صامدا موحدا ومتطورا مهما كانت التحديات ، ولذلك افلحوا ونجحوا .
ايام زمان كان لدينا قلة من هؤلاء الرجال ، لكنهم كانوا كثرة بافعالهم وسمو تفكيرهم وإخلاصهم ، واليوم لدينا رجال كثر ، لكنهم ولسوء الحظ قلة في افعالهم وإنخراطهم في الهم العام للدولة والوطن ، إذ طغت المصالح الخاصة على العامه ، وبات اقصى ما نتمنى ، ذهاب حكومة أملا في فرصة تأتي بها أخرى ، نعم ، ايام زمان كنا نستر عورات الوطن إن وجدت ، واليوم ، نتبارى في كشفها ونشرها على الملأ، ونسعد بذلك كثيرا ، كنا ندقق كثيرا قبل ان نتكلم في شأن عام ، واليوم نأخذ الناس وهم نحن بالشبهات ، كنا متفائلين دوما ، واليوم نحن متشائمون دوما ، نقزم الوطن وكل إنجازاته ، وينسى او يتناسى بعضنا ان الاردن من خيرة وخير دول الارض ، كنا لا نعرف العنصرية والاقليمية والانتهازية وما ماثل ذلك من امراض ، واليوم وللاسف ، نمارسها جهارا نهارا بلا تقوى او وازع من ضمير ، كان تفكيرنا كبيرا ، وصدورنا كانت واسعة جدا ، كنا موحدين دوما ، واليوم صدورنا ضيقة ، ولا نتوحد الا عند المصيبة العامه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
باختصار ، يطول الكلام حتى الغد واكثر ، ولكن الظرف اليوم حساس جدا ، ولا مكان فيه إلا للنابهين الملتفين صفا حول اوطانهم ، وقياداتهم ، المؤثرين للوطن ومصالحه ومستقبل ابنائه وهم ابناؤهم ، على انفسهم وعلى مصالحهم ، والاردن اليوم ، في وجه العاصفة ونسأل الله ان لا يكون في نارها ، وهو امانة في عنق كل فرد منا ، والاردن اليوم بحاجة الى رجاله الخيرين اكثر من أي وقت مضى ، والظرف لم يعد يحتمل التخاذل والعتب والتناحر والتشاؤم والاتهام ، وإنما الاعتزاز بالاردن حق الاعتزاز ، والاعتماد على الذات في زمن قل فيه العون إلا من واحد احد لا سواه ، زمن عز فيه الاصدقاء وتكاثر الخصوم والاعداء .
بالاردني الفصيح ، حيا الله الملك ، والحكومة والجيش والامن ، وحيا الله الاردنيين جميعا من كل المشارب والاطياف ، وحيا الله كل المخلصين لهذا الوطن ، اما المتردد او من يضمر الشر ، فشره في بطنه بإذن الله ، كائنا من كان ، وليعلم علم اليقين ، ان الاردن محاط بعناية الله سبحانه ، وما بعدها ولا قبلها عنايه ، فليلق بعصاه وليسترح ، حيث لا امل امامه الا الخزي والعار ، وأن غدا لناظره قريب بعونه تعالى ، والله من وراء القصد .