لم يعد البقاء على قيد الحياة مطلبا آدميا، فالدودة والصرصار والفايروس تتمتع بالحياة ولا يضيرها ما يقوله البشر عنها، والنمل لا يهمه ما اذا كان السكر الذي يجتذبه على كعب حذاء او على إناء من كريستال.
ان المطلب الان هو بقاء الناس على قيد العقل كي لا تنقلب معادلتهم الوجودية رأسا على عقب فيعيشوا ليأكلوا وليس العكس، وبالتالي تجرهم امعاؤهم كالثعابين الى الزّاد لأن الزمن الذي قال فيه صديقي الزاد اشرفه القليل قد ولّى،
واصبح كل ما هو انساني مثارا لسخرية الواقعيين الذين اجروا جراحة لاستئصال ما تبقى فيهم من رومانسية كما لو انها زائدة دودية مهددة بالالتهاب والانفجار.
ان اكثر عبارة نسمعها من بعضنا هذه الايام هي هل انت فاهم ما يجري ؟ ام ان المعلقين والمذيعات في الفضائيات يتلاعبون بك فتكون مع القيصر او مع الله حسب الطلب، ما دام لكل شاشة رعاة يمدونها بالجلوكوز عندما تصاب بالانيميا وتوشك على الاحتضار.
ولو اعترف من يكتبون بمن فيهم من يخربشون من الهواة بما يسألهم الناس عنه بدءا من ذويهم لكان هذا الاعتراف سبيلا للغفران لكنهم ينكرون، ويخدعون من يسألهم عما يجري لأن للأحمق معجبين به وهم الاكثر حُمقا فالمسألة نسبية كما في كل مجال آخر.
البقاء على قيد العقل هو الاصرار على الامتناع عن الشرب من ذلك النهر الذي يغسل ماؤه الدماغ والذاكرة، وتلك بحد ذاتها مهمة عسيرة، خصوصا في مجتمعات تتصدر قائمة مواعظها التربوية : ضع رأسك بين الرؤوس، ما يقع من السماء تتلقاه الأرض، فأي عذاب هذا الذي اصبح قدرا لمن يتشبثون بجمرة الوعي ؟ وهل الخلاص الأخير هو الاعتذار عن اقتراف جريمة التفكير ما دام التكفير بالمرصاد وكذلك العقاب الذي يبحث عن جريمة وعندما لا يجدها يخترعها ويبحث عن ضحية مناسبة لها.
ما جدوى كل هذه التكنولوجيا اذا اصبحت مُسَخّرة لخدمة الخرافة وتجميل الجهل والنّعيق ؟ فقد اخطأ من اطلق مصطلح التغريد على معظم ما يتداوله زبائن هذا الصندوق الذي اصبح شبيها لصندوق باندورا في الاساطير والذي ما ان يرفع عنه الغطاء حتى تندلع الشرور كلها من داخله وكأنه كيس مليء بالافاعي فتح في غرفة مغلقة ينام فيها طفل! الدستور