هذي دمشق، وهذي الكأس والراح
إني أحب، وبعض الحب ذباح.
(نزار قباني)
الرحلة إلى دمشق الشام، تختلف عن باقي الأسفار عندي، فحين ينقبض القلب، وتصبح الدنيا أضيق من ثقب إبرة، ولا تتسع لجسد منهك، تتوتر بوصلات الوجدان نحو الشمال الأقرب إلى مرمى الحب، إلى دمشق الشام، فيا شام، يا شام يا شام..إن بعض الحب ذباح.
ابوقاسم، السائق الذي قابلته في المكتب، أبهجني بلهجته الأردنية الشمالية،هنا بعض الطمأنينة ترافقني إذن حتى أصل الشام!
حين ركبت السيارة، تفاجأت أنها سورية، أدركت حينها بركات سايكس وبيكو الفاضلان، فأبوقاسم، حوراني، من قرية نصيب الحدودية، بين قريتي في الشمال الأردني وقريته في الجنوب السوري، مسافة لا تتعدى عشر قبلات، إيه يا شام..إن بعض الحب ذباح.
..الطريق نحو الشام، ودودة، حنونة، الطريق نحوها رفيق، بضع غفوات وشذرات أحلام مؤنسة، وأبوقاسم يتحدث عن أبناء عمه في الجانب الأردني، وطيف امرأة مستحيلة ألتقطه ثم أفلته..وهاهي الشام..هاهي دمشق..نصبت مخيما على بوابتها الجنوبية مدخلا، ليصبح عنوانها منذ أولها فلسطينيا..ها هي دمشق وتاريخها يلوح كباقي الوشم على ظاهر اليد..والحب والله يا دمشق ذباح.
**
دمشق، بعد الظهر..
..حيوات داخل حيوات، وتفاصيل مدهشة في علم الحركة، ونبض متوالد تتواتره وجوه الدمشقيين في الحارات والشوارع، عالم متكامل من الحياة.
قررت أن أرتقي بجوعي إلى أقصى حد يليق بأطايب الطعام الدمشقي، لا بد أن أمشي في الشوارع، والمشي بين شوارع دمشق وحاراتها حالة احتضان صوفية.
رغم قسوة العيش، لا يزال الدمشقيون قادرين على اقتحام القلب بيسر، الابتسامة صمام أمان للإستمرار في الإنسانية، والكلام الحلو، عسل القلب.
سوق الحميدية، مرفأ ترسو عليه سفن العطش والحزن، وأنا كنورس أضاع مرافئه كلها فقاده حسن الحظ في التيه إلى سوق الحميدية، كل محل فيه من أوله حتى آخره متحف أو صندوق عجائب.
تجار دمشق، واسط عقد الشام، مدماك استقرارها، إن غضبوا تزلزلت من تحتهم الدنيا، وهم يدركون ذلك، فتعلموا أن لا يغضبوا، وعلمتهم نوائب الدهر أن التجارة أكثر من بيع وشراء، هي حالة تواصل إنساني رفيعة، مدرسة في العلاقات العامة، والتاجر الدمشقي، معلمها بلا منازع.
**
..تاجر دمشقي في سبعينه، على باب دكانه وبين لفائف الأقمشة الملونة، يحتسي الشاي المعطر بالزعفران، التقط بذكائه حجم الفضول الذي يتملكني، ودعاني بأريحية شامية مهيبة إلى الانضمام إليه، هكذا بكل بساطة..
بعد حديث عن الشام، قال لي (هاي الشام الله حاميها)!
اللعنة كم هي رائعة تلك الثقة وهذا الإيمان.
يحلو لأهل الشام أن يرددوا أسطورة منسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي رواية أشك بصحتها لكن تواترها يعكس محبة أهل الشام لشامهم، وتقديسهم للرسول عليه السلام.
يقولون أن الرسول حين وصل أطراف دمشق، ووطئت قدماه الكريمتان ضفاف المدينة القديمة(ولذا سميت المنطقة بالقدم) نزل عليه جبريل عليه السلام ليخيره بين جنة الدنيا أو جنة الآخرة، فاختار الرسول عليه السلام جنة الآخرة وقفل عائدا ولم يدخل جنة الدنيا.
إن تطويع الميثولوجيا الدينية والسيرة النبوية العطرة لا تجد تجليا للحب أكثر من تلك الرواية التي يعتز بها الشآميون...لذا هم على قناعة راسخة دوما أن الشام( الله حاميها).
قبل أن يرتقي الجوع إلى مستوى يليق بالطعام الشامي، قررت أن أخوض تجربة حمام نور الدين الشهيد، المتوسط سوق البزورية.
سوق البزورية..فوضى من الروائح الطيبة، ودنيا من خلاصة الطبيعة اختزلها أهل الشام في أكياس ومواعين.
الحد الأقصى من الإغراء، تجد صورته في البزورية.
..في حمام نور الدين الشهيد، تغسل عنك تعب الأيام، تبحث عيناك وهي تجول في ثنايا المكان عن عبق ما تحسه ولا تراه..تتلمس بجسدك المرتخي بعد حمام ساخن انتعاشا أشبه ما يكون بقصيدة شعر ألقاها شاعر في العصر الأموي وتركها في المكان.
تجلس على أريكة "البراني" متشرنقا بالمناشف في طقس يشبه إلى حد كبير طقوس الإحرام، إن دمشق تجبرك على الحج إليها.
تحتسي على مهل كتمهل العشاق في اللمس، كاسة الزهورات، تتجاذب أطراف الحديث مع شامي إلى جانبك، وبعد حديث قصير عن روعة دمشق، يعيد على مسامعك ذات العبارة التي يترنم بها أهل الشام بصوفية مدهشة(إيه.. وحياة عيونك الشام الله حاميها).
**
لا يمكن للجوع أن يرتقي مهما بلغ أقصاه، إلى حالة الإشباع البصري للسفرة الشامية، والقصة تتجاوز مثلبة النهم المذمومة.
ثقافة الطعام، تكشف عن شخصية الشعوب، والشوام، تجاوزوا فكرة إشباع المعدة، إلى حالة جمالية تعكس ترفا في الذوق، فيتفننون في تطييب السفرة بلوحات من الألوان، والعين تعشق قبل المعدة أحيانا!!!
هل أزيد ومهما زدت وأطنبت فإن الاستزادة لا يمكن لها أن تصف روعة السفرة الدمشقية..أتركها للخيال..فهي بروعته.
**
هناك حكاية معروفة عن الياسمين الشامي، وهو ياسمين لا يعيش إلا في دمشق الشام، لونه أصفر، ويسكن المدينة منذ كانت..
ميزة الياسمين الشامي أنه لا يمكن اغتصاب عبقه مهما حاولت، فأنت تشمه، ويملأ صدرك بعبقه الفواح من خلال تنفسك العادي، أما إذا اقتربت منه وحاولت شمه، فإنه يقطع عنك عبقه!!
يعطيك رائحته كما يشاء، وبرغبته يتكرم عليك..ويرفض أن تتجاوز حدود مجاله الحيوي بالاقتراب منه كثيرا، حتى لو للشم.
الياسمين الشامي...هو شخصية الشام ذاتها..عصية على من يقترب منها..وتجود بكرمها إن هي أرادت.
صديقي عبدالله الشامي وزوجته الرائعة بارعة ياغي، رزقهم الله بابنة ولا أحلى، اختاروا لها اسم ياسمين، وباقتران اسمها بعائلة أبيها، تكون هي "ياسمين الشامي"، وهي كياسمين الشام، أخذت عنه كل بهائه وألقه، وكل عنفوانه وكبريائه..
الشوام مثل ياسمين الصغيرة، مرتبطون بشكل خفي بعجائب دمشق، وياسمين زادت على التاريخ إضافة جغرافية مدت شريانا بين كل ياسمينها الشامي إلى عمان الحبيبة، فياسمين الصغيرة، مواليد عمان، فجعلت منا الأردنيين أخوالا لياسمين الشام.
**
يقول ماجد المجالي، شاعر الأردن متغزلا بالشام:
وقل هي الشام لا خمر ولا جسد
حتى ولا الزينتان المال والولد.
فالشام تعشقني والشام أعشقها
والشام تحمل وجدي حينما أجد.
والشمس تكذب في صبح إذا وعدت
والشام تصدق في صبحين لو تعد.
**
إيه يا شام، جئتك مثخن القلب وعدت منك (كأني عدت إليك) ولا زال بعض الحب ذباح.
mowaten@yahoo.com
--عن اللويبدة الشهرية