في كل موقف يتعرّض له هذا البلد الصامد يتبيّن قدرة الدولة الأردنيّة ومؤسساتها الإستراتيجية على التفكير الإستراتيجي بعيد المدى وبنفس الوقت يتضح ضحالة التفكير الإستراتيجي لدى العديد من الذين يوجهون نصائح للدولة الأردنيّة حول كيفية التعامل مع قضايا محلية وإقليمية معقدة. إلى متى سنبقى نتحدث في كل شيء وغير متخصصين في أي شيء محدد؟ لقد أثبتت التجارب التي مَرّت بها الدولة الأردنيّة خلال قرن من الزمان قدرتها الفائقة والفريدة على التعامل مع الظروف الداخلية والخارجية بحكمة واقتدار، وأن هناك بُعد نظر إستراتيجي في عقل الدولة وقادر على الحفاظ على مصالح الأردنّ الإستراتيجية.
بصراحة اتركوا الدولة تتصرف لأنّ لديها حكمة وعمق في التفكير الإستراتيجي طويل المدى وليس الإعتماد على ردود فعل سياسية يتم تبنيها بناءً على ارتدادات سياسية لدول أو قوى إقليمية. وأكبر دليل على قدرة وقوة العقل الإستراتيجي الكامن في الدولة الأردنيّة ان أقوى دوائر صنع القرار لدى الدول العظمى والتي لها تأثير مباشر وقوي على مجريات الأحداث في المنطقة لديهم الرغبة والإستعداد الدائمين للاستماع الى وجهة نظر الأردنّ سواء من خلال جلالة الملك المعظم مباشرةً او من خلال التعاون المباشر والشراكات مع المؤسسات الإستراتيجية في الدولة الأردنيّة وذلك لتحقيق مصالح متبادلة والذي يصُب في النهاية في مصلحة الأردنّ.
لقد حذَر جلالة المغفور له بإذن الله الملك حسين قبل أكثر من عقدين من الزمن من الإرهاب وأهمية التصدي له وإجتثاث جذوره. ثم حذر جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم-إطال الله في عمره– في بداية الألفية من الإرهاب والتغيّرات الإقليمية السلبية التي تجري في المنطقة. ومع ذلك فإن كثير من دول المنطقة والعالم لم تستطيع إدراك عمق التفكير الإستراتيجي في عقل الدولة الأردنيّة ليتضح فيما بعد أنّ الأردنّ كان الأكثر دقةً ومصداقيةً من حيث القدرة على تشخيص الواقع وكيفية التعامل معه أكثر بكثير من غالبية دول المنطقة وحتى دول كبرى تؤثر فيها. أضف الى ذلك، فعندما يقرر الأردنّ أن يشترك في الحرب ضد الإرهاب والعمل على إجتثاث جذورة فهذا يعني أن عقل الدولة الأردنيّة الإستراتيجي قد شخص الأبعاد والأرتدادات الإستراتيجية المحتملة للإرهاب والفكر المتطرف وقرر إستخدام إستراتيجية إستباقية لحماية الأردنّ ومصالحه الإستراتيجية قبل فوات الأوان. فهل المطلوب إن يقف الأردنّ مكتوف الأيدي وينتظر حتى يأتي الإرهاب والفكر المتطرّف الى عقر داره ثم بعد ذلك يفكر بالتحرك؟ من وجهة نظري لا، إن ما تقوم به الدولة الأردنيّة كلاعب إقليمي أساسي في المنطقة يهدف في النهاية الى حماية مصالح الأردن وشعبة والحفاظ على منظومة الأمن والإستقرار التي لدينا.
أما الأمر الآخر الذي يثير الإستغراب فهو وجود بعض الأصوات التي تنادي بالحدّ من علاقات الأردنّ الإستراتيجية مع بعض القوى العظمى والإقليمية والتخلّي عن الدور الريادي له في المنطقة. إن هذا الطرح يعني ضحالة في الفكر السياسي والإستراتيجي ولا يدرك أصحابة مصلحة الأردنّ الدولية والإقليمية على حدِ سواء. الأردنّ لدية علاقات متوازنة مع شركاء أقوياء في المجتمع الدولي ولا يقيم علاقات مع دول على حساب دول أخرى لأن كافة علاقات الأردنّ مع هذه الدول قائمة على الإحترام المتبادل ووجود موقع مميز للقيادة الأردنيّة لدى دوائر صنع القرار فيها. أضف الى ذلك، فإن الأردنّ يوظف علاقاته الدولية لصالح قضايا محلية وإقليمية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فمثلاً إنّ الشراكة الإستراتيجية التي تربط الأردنّ مع الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وغيرها من الدول الخليجية والأوروبية والقوى المؤثرة في العالم ضرورة إستراتيجية قصوى لحماية المصالح الوطنية الأردنية على المديين القصير والطويل ومن يتصّور غير ذلك فهو واهم. لذلك فإنني أعتقد أن الدولة الأردنيّة تُدرك تماماً ماذا تفعل وتتصرّف وتعرف مصالحها بدقة وتبني إستراتيجياتها على هذا الأساس. فمن حق الدولة الأردنية الدفاع عن نفسها وحماية شعبها ومن يقول غير ذلك فهو واهم. اتركوا الدولة تتصرّف والأمور بخواتمها وليس بإرتداداتها السطحية! هل وصلت الرسالة لبعض من لا يزال يراهق في فهم السياسة واصحاب تسجيل المواقف الزائفة قصيرة المدى؟