تنتاب حالة من القلق الشديد شريحة واسعة في المجتمعات العربية، مما يحدث في كل من العراق وسورية واليمن وليبيا ومصر. ومصدر القلق هو الانهيار السياسي، وانهيار المنظومات الأمنية والقانونية، وصولاً إلى تقسيم جديد للمنطقة، بما قد يؤدي إلى ولادة خريطة سياسية جديدة أكثر تشعباً وتجزئةٍ من الخريطة الحالية!
وعلى قاعدة "شرّ البليّة ما يضحك"، فإنّ حلم الجماهير العربية تمثّل خلال العقود الماضية في تغيير خريطة "سايكس-بيكو" (التي رسمت مع غيرها من اتفاقيات الحدود الحالية في المنطقة العربية)، نحو درجة أكبر من الوحدة السياسية. لكننا اليوم، ومع مرور قرابة قرن على الحرب العالمية الأولى، نتخوّف من "سايكس-بيكو 2"، لكنها ترسم بأيدينا نحن، على وقع الصراعات الداخلية، وتفتيت المجتمعات والدول إلى طوائف وأعراق وأديان وعشائر!
لكن ما هو أخطر من الانهيار السياسي والأمني اليوم، هو الانهيار الأخلاقي والقيمي؛ وما هو مقلق أكثر من الخريطة السياسية، هو الخريطة المفاهيمية وحدود الوعي، وما يثيره ذلك كله من عملية تفكيك أكبر من التفكيك الجغرافي؛ تفكيك للوحدة الروحية والثقافية بين العرب والمسلمين، وحتى لصورة العرب عن أنفسهم، واحترامهم لثقافتهم وتراثهم وذاتهم!
مشهد بشع أن نرى ذبح تنظيم "داعش" لعشرات المصريين فقط بجريمة أنهم مصريون، وأن نشاهد أعضاءه يحطّمون الآثار ويدمّرونها ويغتالون ذاكرة الحضارة العراقية وروحها، ويقدمون أبشع صورة عن الموقف من الفنون وقيمتها الجمالية والتراثية والإنسانية..
ومشهد لا يقل بشاعة أن نرى طفلاً صغيراً يلقّن كيف يطلق النار على شخص، بدعوى أنّه جاسوس؛ كما فعل التنظيم مع محمد مسلّم، ومع شخصين قبله اتهما بأنّهما جاسوسان لروسيا. وكذلك أن يُعدم رمياً بالرصاص فتى في العراق بدم بارد على يد المليشيات الشيعية فقط لأنّه سُنّي؛ وأن تُعلّق جثث عشرات المدنيين على أعمد الكهرباء لأنهم سُنّة، وأن يُقتل المصلون في المسجد في صلاة الفجر، لأنّهم سُنّة، وأن يتم تفجير سيارة في أحياء لأنّ سكانه شيعة.
واقع مؤلم محزن مرعب ذلك الذي نشاهد فيه ملايين السوريين مهجّرين، بما قد يتجاوز أعداد الفلسطينيين الذين هجّرهم الاحتلال الإسرائيلي. وكذلك حال ملايين العراقيين، سواء في داخل بلادهم أو خارجها؛ يعتمدون على المعونات الإنسانية الشحيحة، ويواجهون ظروفاً لا إنسانية ولا آدمية!
مؤلم أكثر وأكثر أن تتم تسوية أحياء كاملة بالأرض في سورية، وإنزال براميل متفجرة لحرق المدنيين أحياء، وتعذيب عشرات الآلاف من السجناء في سجون النظام الفاشي السوري حتى الموت!
مخجل ومفجع أن يلتحق القضاء بلعبة السياسة السلطوية الرديئة؛ فلا يرف للقاضي جفن وهو ينطق بأحكام الإعدام بحق عشرات الطلبة ومئات المعتقلين بجرّة قلم، فقط لأنّهم شاركوا في مسيرات سلمية!
لكن، أتعلمون ما هو أكثر خطورة من هذا وذاك؟ هو أن نرى تبريراً وتقبّلاً لهذه الجرائم البشعة، وتسويغاً من قبل شرائح واسعة من المجتمعات العربية لما يحدث من انتهاك لكرامة الإنسان وحياته وحرماته؛ أن يصبح ذلك أمراً طبيعياً، فنتطبّع مع استسهال القتل والتعذيب، بل وربما نشجّع عليه! أن نجد سروراً وفرحاً بقتل أطفال ومدنيين وبمشاهد التعذيب؟!
فأيّ ثقافة تتكرس اليوم، وأي قيم تتم زراعتها في وعي الأجيال المقبلة، وأي مستقبل مرعب نحن بانتظاره على هذا القطار الرهيب؟! الغد