تروي د. عايدة النجّار في كتابها "بنات عمان أيام زمان.. (ذاكرة المدرسة والطريق)"، كيف انحسر الحجاب بين بنات المدينة تدريجياً في الخمسينيات. وتروي، مثلا، كيف أنّه في مدرسة زين الشرف الثانوية، الأشهر للبنات حينها، "اختفى لبس الملاية وتغطية الوجه بين بنات المدرسة فيما عدا القلة". وتنقل عن إحدى الفتيات، التي تذكرها واسمها، من اللاتي احتفظن بهذا الحجاب بناءً على إصرار والدهن، أحد وجهاء عمّان حينها: "تعبيرا عن الغضب السابق والقيود المكبلة، قمنا بإعدام "الملاية" بالمقص بعد وفاة الوالد. وهكذا دخلت "ملايتي" التاريخ".
منذ سنوات قليلة، ينشغل صديق بالرسم والفن التشكيلي، تاركاً أبحاثه وكتبه ودراساته وهو من ألمع الكتّاب والباحثين الأردنيين. كان قد انتمى للقوميين العرب في عمّان نهاية الستينيات. ومن ثم، بعد تخرجه من الجامعة الأردنية، صار كادراً قيادياً في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكاتباً ارتحل حاملا صناديق كتبه وأبحاثه بين بيروت ودمشق وقبرص، متوارياً من السلطات أحياناً، قبل عودته إلى عمّان مطلع التسعينيات. ويخبرني: "لولا حرب العام 1967، لكنتُ الآن رساماً"، وهو الآن رسّام.
عندما حدثت الثورة الإيرانية نهاية السبعينيات، وجد شبّان من التيار الماوي (نسبة للشيوعي ماو تسي تونغ) داخل "فتح"، في الإسلام ملاذا. وكان واحداً من المتحولين هو منير شفيق، الذي لم يترك الماوية واليسار وحسب، بل وتحوّل من المسيحية للإسلام. وكان من المعجبين به شبّان أسسوا لاحقاً سرايا الجهاد الإسلامي "سجا"، التي قامت بعمليات كبرى؛ منها ضرب حفل تخريج جنود إسرائيليين قرب حائط البراق العام 1986. وإذ أعتمد على ذاكرتي، وقد كنت يومها طالبا في المدرسة، فقد قالت الصحف إن العملية التي تمثلت في إلقاء قنابل يدوية من فوق أسوار "الأقصى"، أوقعت 70 إصابة. والشهر الماضي، كشف معين الطاهر؛ قائد كتيبة الجرمق (السرية الطلابية)، أنّ رمضان شلح، الذي كان مقيما في بريطانيا (رسالته للدكتوراه عن البنوك الإسلامية)، كان له دور تنسيقي في العملية. ومن العمليات أيضا، محاولة اغتيال آرييل شارون بسيارة تقودها استشهادية هي عطاف عليان. وقد فشلت العملية، واعتقلت عطاف التي ستعرف بعد إطلاقها باسم "أم حمدي"، والتي كانت -كما يكشف الطاهر- اشترطت للقيام بالعملية بملابس مجندة إسرائيلية صدور فتوى، أصدرها فعلا "أحد كبار علماء الشريعة".
إذن، كُل حرب تطلق حياة مختلفة. أطلَقَت هزيمة العام 1948 التيارات اليسارية والماركسية والقومية، وأنهت "المحافظة" الاجتماعية، مجاريةً اتجاها عالميا حينها. وأطلقت هزيمة العام 1967 التيّار الوطني الفلسطيني والمقاومة المسلحة التي جذبت الفلسطينيين والعرب، وحوّلت القوميين إلى فصائل فلسطينية، وإن أفسحت مجالا لبدء نمو التيار الديني الذي تلقى دفعة كبرى بانتصار الخميني والفقهاء في إيران، وبالجهاد الأفغاني، وبعد خروج المقاومة من بيروت.
في العام 1951، موّلت أجهزة مخابرات غربية، سراً، أبحاثا جامعية عن أثر العزل وتعطيل الحواس "لتوليد حالة مفرطة من الملل"، تؤدي إلى فقدان القدرة على التركيز، ومحاولة "مسح العقول"، وجعلها صفحة بيضاء، والكتابة عليها من جديد. ومن التجارب، إجراء صدمة كهربائية لامرأة تعاني كآبة ما بعد الولادة، وإسماعها شريطا متكررا أنّها مهملة لزوجها وأولادها. وتَبَنّت وكالة الاستخبارات الأميركية التجارب؛ فصدمة المعتقل بالكهرباء أو الأصوات العالية والمرعبة، وسوى ذلك، تفقد المرء تماسكه، وتجعله يتقبل التعاون.
وبحسب كتاب وفيلم "عقيدة الصدمة"، لصاحبتهما نعومي كلاين، واللذين يوثقان التجارب، عُمّمَت التَجرُبة من قبل
سياسيين واقتصاديين على نطاق واسع، لنشر أفكار ومبادئ على نطاق مجتمع كامل؛ كحملات الاعتقال والتعذيب الهائلة في تشيلي، أو استخدام تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وتوظيفها من قبل وزارة الدفاع الأميركية لتمرير مخططات "الحرب على الإرهاب"، وتبرير حرب العراق. وتقبل الرأي العام الأميركي هذا؛ إذ إنّ بعض الضربات كانت لسان حالهم، كما تقول كلاين: "نحن لا نعيش في ذات العالم الذي كنا نعيش فيه".
سواءً استخدم أحدٌ صدمة، أو سببّها، فإنّ آثارها تنشئ تفكيراً جديداً، وردة فعل جديدة. فالعالم وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والنازية والفاشية، غيرهما قبلها، والعرب كانت الحروب والثورات تهزهم. والآن، فإن عالم ما بعد تنظيم "داعش" وجِزارته، غيره قبله. الآن، يبدأ التفكير فيما مضى، وتبدأ اتجاهات جديدة، وقد ينشأ إنسان جديد، كُلّياً أو جزئياً. الغد