خطاب جلالة الملك أول من أمس لأسرته الواحدة، ليس إلا تتويجا للحظة الأردنية الفريدة التي تجلت عقب الإعلان عن استشهاد البطل الطيار معاذ الكساسبة، وعنوانها حق الأردنيين في أن يرفعوا رؤوسهم؛ لأنهم تصدوا فعلاً للإرهاب والتطرف، بأن قدموا في سبيل ذلك شهيدا افتدى الوطن واستقراره، وذاد عن أمن كل واحد منا، فصار معاذ ابنهم جميعاً.
ويحق للأردنيين أن يرفعوا رؤوسهم، أيضاً، لأن أحوال بلدهم تختلف عن كل من حولهم. فهم من عبروا "الربيع" بسلام، وفوق ذلك استقبلت عمّانهم الحبيبة، كما كل شقيقاتها من المدن الأردنية، الملهوفين الذين ضاقت عليهم أوطانهم.
كل ذلك ما كان ليتحقق لولا وحدة وطنية صادقة راسخة، تجلّت مرة أخرى في قلوب الأردنيين وأرواحهم وهم يلتفون حول وطنهم وملكهم، فكان لهؤلاء جميعاً أن يشمخوا برؤوسهم حتى تطاول السماء.
الملك في خطابه بدا مفعماً بالحالة الوطنية؛ فخراً بالشعب والجيش، رغم الألم الكبير الذي سببه الفعل الإجرامي الذي أقدم عليه "داعش" الإرهابي الذي لا يرحم بشرا ولا حتى حجرا.
جلالته يؤكد للجميع على ضرورة البناء على اللحظة الفريدة التي أعقبت إعلان استشهاد معاذ، مزجياً رسالة واضحة بأن الأردن سيمضي بثبات نحو الديمقراطية الحقيقية. إذ قال الملك بالحرف الواحد: "نحن ماضون معاً. ماضون رغم كل التحديات لتعزيز مسيرتنا الديمقراطية، وتنمية مجتمعاتنا. ماضون في تعميق المواطنة الفاعلة على أساس العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. فهذه هي المبادئ الراسخة في الضمير الأردني".
أما النتيجة، فهي مستقبل أفضل وعد به جلالته حين ختم خطابه بالقول: "وما كان قدر هذا البلد يوماً، إلا أن يكون بدايةً لما هو أعظم". فالأردن الأقوى اليوم بجبهته الموحدة، لديه الفرصة لأن يمضي في بناء دولته الديمقراطية التي تشبع طموحات الأردنيين، وليجتث بالتالي أيضا البيئة المواتية لتمدد الفكر المتطرف، تلك البيئة التي يمكن تلخيص أهم مواردها في غياب العدالة والمساواة، معبّراً عنهما أساساً بتكافؤ الفرص بين المواطنين.
بيد أن الشرط لتجسيد هذه الفرصة إنجازاً حقيقياً على الأرض، هو العمل والإنتاج، وتحقيق النجاح، من قبل كل أردني. فالحفاظ على الوحدة وتمتين الجبهة الوطنية مشروطان، في علاقة متبادلة، بالروح الأردنية الحريصة أبدا على وطنها؛ ازدهاراً، كما أمناً واستقرارا.
صورة الملك كانت هذه المرة مختلفة، لأن بلده خضع مجددا لاختبار صعب، اجتازه تماماً كما كان متوقعاً قياساً لتاريخ وإرث راسخين، لكنه فوق ذلك خرج من محنته أقوى وأمتن أيضاً. فكان أن عكس حديث الملك إحساسه بأن الوطن موحد قوي، أكبر من الأزمات أياً كان حجمها، وبما يؤهله لقادم عظيم؛ يعزز استقراره وأمنه وازدهاره.
اختبار معاذ ربما كان الأقسى منذ تفجيرات فنادق عمان في العام 2005 من قبل الإرهابيين ذاتهم، مع تغير المسمى فقط. وقد انتصر الأردنيون، وكل من راهن عليهم، بأن كانت رسالتهم واحدة، عنوانها: نحن جبهة الوطن الذي نحميه ونذود عنه.
الملك تحدث لكل الأردنيين؛ مسؤولين ومواطنين. وخاطبهم بما شعر ويشعر به، وبشأن ما يفكر فيه لأجل مستقبل الأردن. وعلى الجميع التقاط الرسائل والسعي إلى تنفيذها. فالملك بخطابه المختلف هذه المرة، أطلق صفارة البدء بالبناء على الحالة الوطنية التي كشفنا صلابة معدنها مجدداً. والآن يأتي دور المسؤولين والسلطات المختلفة، كل من موقعه وفي ساحته.
التحديات القائمة كبيرة؛ محليا وإقليميا. لكن تجاوزها ممكن حتماً، بفضل الروح الأردنية العالية أساساً، وحبهم غير المحدود ولا المشروط لوطنهم. وهذه هي متطلبات مواصلة المسيرة الأردنية المميزة عربياً وإقليمياً، إن لم يكن عالمياً، بجدارة واقتدار. الغد