الرسالة التي وجهها خوارج العصر إلى الأردن وأهله قطعاً هي رسالة في الاتجاه الخاطئ، ولا يوجهها إلا من فقد البوصلة وعميت عليه الاتجاهات وأخطأ الطريق بعد أن ضل ضلالاً بعيداً.
فهي رسالة في الاتجاه الخاطئ لأمرين:
أولاً: أن الاستدلالات الشرعية التي جاءت في الرسالة منافية للإسلام تماماً ولا تمت له بصلة، وهذا ما أكدنا عليه أكثر من مرة، فنصوص القرآن الكريم والسنة واضحة وصريحة في دعوتها بمجموعها العام للرحمة والمودة واحترام الكرامة الإنسانية والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ ليهدد الناس ويتوعدهم بشرب دمائهم وقطع رقابهم.
وما احتج به هذا التنظيم الإرهابي في تبرير أعماله الإرهابية بذكر ما ورد في بعض كتب التاريخ، لم يثبت عن أحد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أنه أحرق أحداً ممن خالفهم، فقد كانوا متمسكين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله).
وأما هذه الادعاءات الكاذبة بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أمر بحرق المرتدين فهو أمر لا يخفى على علماء الحديث ونقاد التاريخ زيفه وكذبه، مما يفضح جهل هؤلاء في مبادئ وأساسيات علوم الشريعة.
وكذلك ما نقل عن الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه لم يثبت عنه أنه قام بحرق المرتدين ولم تورده كتب التاريخ معزوة إلى إسناد يمكن دراسته والبناء عليه وما قيل في ذلك هو تزوير وافتراء لا يقبله عقل ولا دين.
وأما الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن نقل عنه الحرق ولم يستكمل حقيقة الخبر، إنما أراد أن يلبس على الناس بما يخالف المنهج العلمي الصحيح، ذلك أنه كما ينقل حرّق القائلين بألوهيته، وقد أنكر عليه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس فعلته، وذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب بعذاب الله...)، وابن عباس هو حبر الأمة، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم فقهه في الدين) فندم علي رضي الله عنه وسلّم بما قاله ابن عباس رضي الله عنه لأنه حفظ الحديث النبوي ونسيه علي رضي الله عنه.
ثم على فرض صحة شيء من أحداث التاريخ المنقولة، فإن المعلوم في قواعد العلم الشرعي أن الدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة لا يُعارَض بحكايات تاريخية عن أحد من الناس، بل العكس هو الصواب، أن ينقد التاريخ بمعيار الدليل من الكتاب والسنة، وتبقى هذه اجتهادات إن كانت فعلت فإن دليل المنع من الكتاب والسنة التي تنهى عن الحرق لم تصل إلى أصحاب هذه الاجتهاد، أو أنهم نسوها، وقد قال محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم»، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: «كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر»، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابي إن اجتهد فليس اجتهاده حجة شرعية في نفسه، لأنه ليس معصوماً، وباب الخطأ يرد عليه، وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أنه لا اجتهاد في مورد النص.
والضلال يبدأ حين يقصد الباحث إلى الروايات التاريخية الشاذة والمكذوبة، كما فعل خوارج هذا العصر ويستدلون بها على ممارساتهم الإجرامية البشعة، ضاربين عرض الحائط بكل النصوص الشرعية والقواعد الفقهية التي تؤسس لشريعتنا الإسلامية السمحة.
فلا يجوز رد الأحاديث النبوية الصحيحة في النهي عن التعذيب بالنار، وإساءة الظن بالصحابة رضي الله عنهم بنسبة الحرق إليهم من غير حجة ولا برهان.
وأما تكييف حرق الطيار البطل بالنار على أساس القصاص والاستشهاد بالأدلة الدالة على وجوب القصاص فخطأ ظاهر، لأن القصاص لا يرد في سياق المعارك، ولا يرد في التعامل مع الأسير، ومن ظن أن القصاص يطرأ على أسير الحرب فهذا جاهل بأبجديات الفقه الإسلامي، ومن الجهل أيضاً عرض المسألة تحت باب «المُثلة»، فالمثلة التي بحثها بعض الفقهاء هي التي تقع على الجثة بعد موتها، والفقه الإسلامي يقرر أن الأسير بعد التمكن منه لا يعامل معاملة القصاص ولا يطرأ فيه الكلام في «المثلة» بل له أحكامه الخاصة.
ثانياً: والاتجاه الخطأ الآخر أن هذه الرسالة موجهة إلى الأردن وعشائره وأبنائه دون معرفة طبيعة الأردنيين وفهمهم لدينهم وتمسكم بأوطانهم وانتمائهم لقيادتهم الهاشمية بشرعية موصولة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
فالأردنيون بعد حادثة استشهاد الطيار البطل معاذ الكساسبة، وحرقه وهو يتلو كتاب الله بذرائع ومسميات ما
أنزل الله بها من سلطان، ازدادوا قوة ووحدة وتماسكاً واعتصاماً بحبل الله الذي يأخذ بيد الإنسان نحو كرامته وأمنه واستقراره، وهذا ما أكدته استطلاعات الرأي العام في الأردن حيث أظهر استطلاع الرأي الذي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية أن الغالبية العظمى من الأردنيين 95% تعتقد بأن «داعش» حركة إرهابية، كما يعتقد 83% من المستجيبين أن سياسات وأفعال عصابة «داعش» تشكل تهديداً للأمن والاستقرار في المنطقة.
كما أظهرت استطلاعات الرأي أن التهديد للأردن والشعب الأردني أبرز تلاحماً كبيراً بين أبناء الشعب الأردني بكافة أطيافه وأصوله ومنابته والتفافهم حول قيادتهم الهاشمية وتأكيد مبايعة جلالة الملك في حرب الدفاع عن الإسلام وصورته السمحة أولاً، ولرد كيد المعتدين ومحاولاتهم الفاشلة للنيل من كرامة الأردنيين وأمنهم واستقرارهم ثانياً.
فظهر من خلال ما سبق بأن الأفعال التي ارتكبها هذا التنظيم زادت من قوة الأردنيين وتماسكهم وحرصهم على مواجهة التطرف والإرهاب، فانقلب الأمر على هذه العصابة الضالة، وضرب الأردنيون أروع الأمثلة في مواجهة الحوادث والملمات فكانوا مثالاً يحتذى في البطولة والصمود فما نال حرق معاذ رحمه الله من عزيمتهم وإرادتهم بل زادهم قوة وإصراراً على مواجهة الإرهاب والوقوف في وجهه.
أضف إلى ذلك أن أسلوب العصابة في مخاطبة عشائر الأردن وأهله من خلال أحد أبنائها لهو أمر مثير للسخرية والاشمئزاز فالأردنيون يعرفون هؤلاء جيداً ولا تنطلي عليهم سفاهات المجرمين وترهاتهم، ولن يزيدهم هذا إلا تماسكاً وحباً لجيشهم العربي المصطفوي وهم يسيرون على نهج آبائهم وأجدادهم في هذا الحب، الذي جعلهم يقدمون أرواحهم شهداء وهم يدافعون عن ثرى الأردن وفلسطين، ولا زالوا يقدمون التضحيات في الدفاع عن مبادئ الإسلام العظيم وقيمه السمحة. الرأي