تحويل الأردن من وطن إلي مستودع عمال
جمال الطاهات
19-04-2008 03:00 AM
قيمة الوطن أنه تعبير عن فكرة سامية. ومهمة القيادة هي تجسيد هذه الفكرة السامية وحمايتها. القيادة مهمتها ضمان ديمومة المجتمع، من خلال تأمين شرطين، سياسات ملائمة لصيانة حياة الناس، وضمان السمو في فكرة الدولة. فما يميز الدولة عن عصابة القراصنة أنها تعبير عن فكرة سامية، يموت الناس من اجلها ويحصلون علي أكاليل الغار.
فالدولة فرصة للحياة، وهي أيضاً فضاء للمجد. ولكنها ليست جمعية خيرية تلطف من الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية الكارثية. والقيادة مهمتها ليس تخفيف آثار السياسات الاقتصادية، بل مهمتها ضمان سياسات اقتصادية مناسبة. والمجتمعات لا تسعي بشكل خطي للرفاه، ولكن الشدة يجب أن تجد مبرراتها في قيمة عليا. وهذه المبررات هي بالذات ما تحتاجه القيادة دائماً لتبقي علي الخيار المقابل للرفاه. فالقادة العظام يقودون بكل ثقة رغم أن ما يعدون شعبهم به هو الدم والعرق والدموع. ولكن لأنهم تعبير عن قيمة سامية، فالشعوب لم ترفض الوعد بل حملته بكل كبرياء حتي النصر.
ارتباك السياسات الاقتصادية في الأردن، لا يعبر عن نقص معرفة الفريق المسيطر علي القرار السياسي والاقتصادي، ولكنه يعبر عن فجوة حادة بين فهم هذا الفريق لفكرة الدولة ودورها الاجتماعي، والتزامه بخدمة شريحة محددة في المجتمع. ومع استمرار السياسات والبرامج الاقتصادية الراهنة، سيكون من الصعب جداً التمييز بين الدولة التي تلتزم بتأمين شروط الحياة لأبنائها، وتسعي لان تكون تعبيراً عن قيمة عليا يؤمنون بها، وبين مقاول العمال في المنطقة، الذي يقدم خدمات إقليمية لقاء عائدات مالية. والخدمات المرشح لها الأردن هي أن يتحول إلي مستودع عمال يخدمون في المراكز الرأسمالية، والقواعد العسكرية المحيطة بهم.
وهذا ليس تجنياً علي فريق الأرقام وأبطال الديجتال، الذي يسعي لإخفاء الوجه الاجتماعي والسياسي لبرنامجه بترديد تعويذاته الرقمية، ولكنه لكشف حقيقة انحراف البرنامج الاقتصادي، وسعيه لتحقيق أهداف تتناقض بشكل جوهري مع فكرة الدولة ومع فكرة الوطن. فهناك سؤال محلق يبحث عن إجابة، وهو كيف يتم بيع مقر القيادة العامة للقوات المسلحة مرتين؟ وأي مشروع إسكان هذا الذي يتطلب بيع مقار عسكرية لبناء شقق سكنية وأبراج؟ وهل تكفي بعد هذا دعوة الملك لتخفيف آثار الغلاء علي المواطنين؟ وهل يكفي لتجاوز ذلك قيام الديوان الملكي ببناء مساكن للفقراء، أو توزيع معونات هناك وهناك؟
الدولة التي تريد أن تتبني برامج خصخصة تسعي لتأمين شروط الإنتاج للمجتمع، ولا تتحول إلي دولة تقوم بمشروع رعاية لشلة رأسمالية. الدولة التي تتبني برنامج السوق المفتوحة تسعي لتأمين شروط السوق، وتسعي لتقديم الشروط الضرورية لكل أبنائها ليكونوا جزءاً فعالاً في سوق وطنية تديم حياتهم.
الدولة التي تريد أن تبقي دولة وتعبيراً عن وطن يستحق الأغنيات والدم والدموع، تؤمن لأبنائها أربعة شروط هي: ماء، وطاقة، وتعليم فعال، وبنية قانونية تمكنهم من العمل. وهي تحصل الضرائب منهم لإدامة هذه الشروط، وتحقيق الأمن والعدالة، ليتمكن الجميع من العمل والإنتاج. ولكن الدولة التي تغفل المياه، وتمنح كل قطاع الطاقة لشلة تحتكره، وترتبك قوانينها، وتتداعي فيها بنية التعليم العام والعالي، وتحول كل فرص الثروة فيها لمشاريع إسكان، لا تقوم بكل هذا نتيجة خطأ معرفي، بل هي متورطة بشكل سافر في مشروع تحويل الأردن من دولة تأسست لخدمة فكرة سامية ولتعبر عن وطن، إلي مجرد مستودع عمال يخدم قواعد عسكرية ومراكز رأسمالية إقليمية.
حتي نفسر إهمال قطاع المياه، في الأردن لا بد أن نلاحظ أنه بدلاً من تطوير الأراضي الزراعية عبر تطوير موارد مائية مناسبة، يتم تفكيك كل البنية الإنتاجية الزراعية، وتحويل الأراضي الزراعية إلي محميات إسكانية. وحين يتم حرمان الفلاحين وأبنائهم من كل فرص الزراعة، كيف سيعيشون؟ لا بد لهم من مورد رزق وهو العمل في مراكز رأسمالية إقليمية متطورة. وحتي يضمنوا العمل في هذه المراكز عليهم أن يبقوا مسالمين، وإلا فقدوا فرص عملهم.
لنتذكر أن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قام علي أساس حرمان السود من كل شروط الإنتاج، وجعلهم أمام خيارين، إما الموت جوعاً، أو الموت في مزارع ومصانع البيض. ولغايات أمنية كان السود يمنحون تراخيص خاصة لدخول مناطق البيض للعمل في مزارعهم ومصانعهم، ثم يعودون للمبيت في ما تبقي من أكواخهم. وفي بداية حركة السود قام مشروع في سبعينيات القرن الماضي شعاره تحسين معيشتهم عبر منحهم منازل ملائمة. الميزة الوحيدة للأردن أنه جغرافيا، عند نزع صفة الوطن عنه، وتحويله إلي مستودع عمال، سيحقق فصلا قانونيا وأخلاقيا بين مستودعات العمال، وبين المراكز الرأسمالية التي تضطهدهم. السود في جنوب أفريقيا تمكنوا من التخلص من نظام التمييز العنصري لأنهم طالبوا بالمساواة كمواطنين في دولتهم.
عمال الأردن لن تكون لهم شرعية الاحتجاج علي ما تقوم به المراكز الرأسمالية المحيطة بهم. مستودعات العمال التي يعملون فيها ستأخذ شكل الدولة، مما يبرئ ذمم المراكز الرأسمالية من معاناتهم وحرمانهم.
مشاريع الإسكان التي تتم في الأردن تترافق مع تسريبات إعلامية عن أن مؤتمر فتح القادم سيأتي بترتيبات لجنة مركزية تفصل من عضوية فتح كل من لا يوافق علي أوسلو. وعلي ذمة التسريبات أيضاً فإن شعاره، ليس تحرير كل فلسطين، وليس إنشاء الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف، بل تعميق العلاقات الوحدوية مع الأردن. وعظم الله اجر الذين تقبلوا التعازي بدماء الشهداء الذين ماتوا دفاعاً عن استقلال القرار الوطني الفلسطيني. وعظم الله اجر الثكالي اللواتي حرمن الحياة، وحرمن مجد دماء أبنائهن وأزواجهن. وعظم الله اجر الأمة العربية التي بكت وغنت لفلسطين.
ويحيا السماسرة الذين يحولون الأوطان إلي مشاريع إسكان. لسنا ضد السلام، ولكن السلام المنشود هو الذي يحافظ لنا علي أوطاننا. السلام الذي سيجرد جغرافيا الأردن من كونها وطناً ليس سلاماً. السلام الذي سيحول الأردنيين والفلسطينيين إلي أرقام في مستودع عمال ليس سلاماً. السلام المنشود هو الذي يضمن أن يكون الأردنيون والفلسطينيون شركاء كاملي الأهلية في مشروع التقدم الإنساني وليسوا مجرد عمالة رخيصة للقواعد العسكرية والمراكز الرأسمالية. سماسرة العقارات لا يصنعون سلاماً. إنهم يخلقون حالة ستتحول قريباً إلي خط نار جديد. فالمطلوب أوطان يستطيع أن يحيا الناس فيها مواطنين، وليس سكانا فقراء يعاملون كمنكوبين ينتظرون أهل الخير من الزعماء ليطعموهم ويلبسوا أبناءهم معاطف الشتاء.
*كاتب من الأردن
عن القدس العربي .