أكثر المشاهد إيلاما في المسار الاقتصادي لأي دولة، هو أن تطول قائمة الانتظار بالنسبة لخريجيها ونخبها؛ بل ويشمل الانتظار مكونات الدولة كافة، حتى من ليس لهم شأن ولا ينتظرون غاية بعينها.
نخب اقتصادية وسياسية تحفزت قبيل التعديل الوزاري بأسابيع، وتحركت الواسطات وتزايدت الولائم، وباتت النخبة الساعية إلى الحصول على كرسي في "الدوار الرابع" أو منصب اقتصادي رفيع، ضمن قائمة الانتظار. وللقارئ أن يتخيل حجم الوقت والأموال التي ضاعت خلال هذا الانتظار.
بصراحة، لا أدري ما الجدوى من تداول الأسماء، لا البرامج والمضامين الجديدة، في إدارة الملفات الاقتصادية. فالمطلوب هو أن يشعر المواطنون، وخاصة الفقراء، بأن إدارة هذه الملفات تحاول صنع فرق في حياتهم، ونقل أحوالهم إلى أخرى أفضل.
تبدد انتظار أمس، بانتظار الانتظار المقبل. وهكذا، كلما لاحت فرصة لمنصب أو شغر موقع حكومي، يشعر المرء وكأن لا دور للمئات من هؤلاء المنتظرين إلا انتظار المناصب والتداول عليها، فيما أوضاعنا تزداد بؤسا، وإيقاع الحياة الاقتصادية أكثر من رتيب.
الانتظار يطال كل شيء من حولنا، ويتجاوز النخب إلى أفواج الخريجين وطالبي الوظيفة العامة. وتُظهر بيانات حكومية أن عدد حملة الشهادات الذين ينتظرون دورهم في ديوان الخدمة المدنية، يفوق 280 ألف أردني وأردنية. وهو عدد كبير ومقلق كيفما نظرنا إليه، ويشير إلى أن الانتظار سمة في نسقنا الاقتصادي. وعندما نعرف أن عدد المعينين في الوظائف العامة خلال السنة الماضية كان ستة آلاف وخمسمائة شخص فقط، ندرك أن قصة الانتظار هذه ستقضي على جذوة الشباب وحماسهم، وستجعل مستقبل الاقتصاد في مهب الانتظار. فالمتوقع من هؤلاء أن يبدعوا ويقدموا أفكارا خلاقة تساعد في صناعة حالة اقتصادية جديدة، لا أن يبقى هذا الجيل رهينة لوظيفة عامة قد لا تسمن ولا تغني من جوع.
حدثني صديق بأن شقيقه -في الثلاثين من عمره- ينتظر تحسن الأحوال الجوية حتى يستأنف ورفاقه رحلات البحث عن الذهب التي يجولون فيها طول البلاد وعرضها. ويرافقهم في هذا الانتظار الثقيل رجال طاعنون في السن، مضى على مشاركاتهم في أوهام الذهب أكثر من أربعة عقود. وثمة من ينتظر اكتشاف النفط في الأردن حتى يتسنى له الرفاه والزواج، وقد بدأ عقده الخامس للتو، ولم يحظ بعد بوظيفة، ويقنع نفسه أن الانتظار ينطوي على فائدة تخبئها الأقدار.
الكل ينتظر على ما يبدو، حتى أمسى الانتظار أداة نستخدمها لتخدير أنفسنا، عبر التأسيس لصناعة الوهم. فلا كثير من النخب لديه ما يفعله أو ينجزه، ولذلك ينتظر فرج "الدوار الرابع"؛ ولا الشباب الذي حصل على الشهادة الجامعية قادر على كسر إيقاع "الميري" والالتصاق به.
المؤذي في كل ما سبق، أن الشعب يتعامل مع هذا الانتظار بتمجيد مفرط، ويلبسه أثواب القناعة والرضى والصبر. والأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ فنمو الاقتصاد بقديمه وجديده، ارتبط بالحركة والنشاط والمثابرة، واقتحام الحصون المنيعة بحثا عن إيرادات وأحوال مالية جديدة، وعكس ذلك هو الكسل والتراخي والارتماء في أحضان "الميري" والانتظار المديد!(الغد)