عقب إقدام تنظيم "داعش" على قتل الصحفي الأميركي جيمس فولي، في آب (أغسطس) الماضي، لجأ الرئيس باراك أوباما إلى تشبيه التنظيم بـ"السرطان". لكن على الدقة الشديدة لهذا التشبيه، إلا أنه يبدو أن الرئيس الأميركي وإدارته، مع آخرين حتماً، قد اكتفيا بالجانب القاتل المشترك بين "داعش" و"السرطان" في حال لم يتم التصدي لهما واستئصالهما، مغفلين أن هذه النتيجة المدمرة تتحقق أيضاً في حال العبث بالسرطان/ "داعش"، بما يؤدي إلى انتشارهما بدلاً من وقف تمددهما.
هنا لا بد من التمييز بين مستويين في النظر إلى ظاهرة "داعش". الأول، الذي يتم التركيز عليه حالياً، يتمثل في دور "الانتصارات" التي حققها التنظيم في العراق وسورية منذ حزيران (يونيو) الماضي تحديداً، على صعيد استقطاب مزيد من الأعضاء والمؤيدين والمناصرين. فبالنظر إلى هذا المستوى فقط، يكون مبرراً تماماً "تفاؤل" مسؤولين أميركيين، في تصريحات نقلتها محطة "إن. بي. سي" الإخبارية الأميركية، أول من أمس، بأنه رغم "استمرار تزايد أعداد المواطنين الغربيين الذين يسافرون إلى العراق وسورية للانضمام إلى "داعش"، والذين بلغ عددهم الآن 3400 شخص.. إلا أن النجاحات العسكرية الحالية ضد التنظيم، وسلسلة المبادرات التي اتخذتها الحكومات الأوروبية (بمراقبة المشتبه بهم)، ستعكسان هذا الاتجاه".
لكن هذا الاستنتاج المتفائل، الذي يُعتبر أو يُظن أنه نجاح، يفرض السؤال الأهم: ماذا سيفعل أولئك الذين لا يستطيعون الانضمام لداعش في العراق وسورية، وهم المقتنعون بفكر التنظيم ونموذجه؟ وهو السؤال الذي يرتبط بالمستوى الأول والأساس، إنما المسكوت عنه تماماً تقريباً، بشأن ظاهرة "داعش"؛ ويتمثل في الأسباب التي جعلت ممكناً أصلاً وابتداء ظهور التنظيم، حتى قبل تحقيقه أي انتصارات عسكرية. بعبارة أخرى، فإنه في حال إغلاق المداخل إلى المحرقة السورية والعراقية (وليس إطفاءها)، هل سيكون ذلك أفضل للأميركيين والأوروبيين، وأهم منهم دول الجوار، أم سيحول ذلك "الدواعش" الذين عجزوا عن الوصول للبلدين، إلى خلايا نائمة، أو ما يسمى بمصطلحات خبراء التطرف والإرهاب "ذئاباً منفردة"، تفرغ إرهابها في بلدان تواجدها؛ فتكون النتيجة انتشار سرطان "داعش" الفكر والمنهج إلى خارج حدود سورية والعراق، ولربما بشكل أكبر وأشد خطورة؟
ذلك أن مواصلة استهداف الإرهاب "السُنّي" فقط، ممثلاً بتنظيمي "داعش" و"القاعدة" عموماً، مع غض الطرف تماماً عن الإرهاب الشيعي الإيراني؛ في العراق وسورية واليمن، والذي لا يقل وحشية، لكنه أكثر ذكاء في إخفاء جرائمه وتوظيفها على الأرض، بتغييرات ديمغرافية وسواها، هذا الإرهاب الأخير سيجعل ممكناً لداعش وخلفائه وأشباهه توظيف ذلك باعتباره مؤامرة غربية خصوصاً، وعجزاً عربياً في أحسن التفسيرات، عن حماية السُنّة، بما يبرر استهداف كل المشاركين في ذلك.
والملغز أن الجميع يعرف ذلك، غربيين وعرباً! فالعراق ما صار أرض "داعش" إلا بفضل ترك الولايات المتحدة و"الأشقاء" العرب العراقيين نهباً لإيران ووكلائها، تشريداً وإقصاء، إن لم يكن قتلاً وتنكيلاً، كما اعترف بذلك العالم أجمع، وصراحة، بعد اجتياح التنظيم للموصل العام الماضي. وهكذا أيضا اشتد عود التنظيمات المتطرفة في سورية حين كان الخيار بينها وبين نظام الأسد الذي لا يعد السوريين إلا بالموت. وليس يغير من هذه الحقائق محاولة السكوت عنها والتعمية عليها، بل مؤدى ذلك قبولنا نحن دفع الثمن الباهظ للسياسات الأميركية المغامرة والمرتجلة، كما السياسات الإيرانية الطائفية، في عالمنا العربي؛ أي دفع الثمن مرتين، ليس من حاضرنا فحسب، بل ومن مستقبلنا أيضا حين تموت المواطنة نهائياً لحساب الهوية الطائفية.
"الغد"