من المشاهد الكاريكاتورية التي تعبّر عما يسمى التناقض بين الوسائل والغايات اجراء جراحة للفيل بابرة ، واجراء جراحة للعصفور بسيف او ساطور، ومعظم المقاربات السائدة الآن لتحليل ظواهر سياسية واجتماعية هي من هذ النمط، وكأن هناك خبراء محترفين في تبسيط المعقّد وتعقيد البسيط، وعلى سبيل المثال كان التحليل السائد والتقليدي لظاهرة الارهاب والتطرف هو الوضع الاقتصادي بحيث تصور البعض ان البطالة هي المنبع الوحيد، رغم ان مصطلح تجفيف منابع الارهاب يرد في سياق آخر مضاد، وهو التمويل واهدار المال، وحين كتبت قبل عام عن الخلل في هذه المقاربة الاقتصادية اساء البعض فهم المقصود بذلك، وأذكر يومها انني استشهدت بأمثلة منها ابن لادن والظواهري وغيرهما، فهؤلاء من عائلات ثرية ولا تشكو من شحة المال بل من فائضه، وحين قرأت بالامس عن قاطع الاعناق المسمى جون وهو انجليزي من اصل عربي تأكدت لديّ الفكرة، فهو اكاديمي لا يشكو من الفاقة، بل من شيء آخر يجب اكتشافه والتعرف عليه، وقياسا على ذلك فإن من يمارسون الاغتصاب والعنف الجنسي ليسوا بالضرورة ممن يعانون من كبت جنسي مزمن .
وللمثال فقط نذكر حكاية الرئيس الامريكي الاسبق كلينتون التي انتهت بفضيحة كونية . ان اهمال المقاربة السايكولوجية واسسها التربوية هو بمثابة البحث عن جناحين تحت صدفة السلحفاة، لهذا يبقى الجهد المبذول بلا طائل، والدراسات النفسية التي كتبت عن طغاة وحكام مستبدين بدأت من طفولاتهم ومن العنف الذي كانوا يميلون الى ممارسته مع زملائهم في المدرسة او مع ابناء جيرانهم، لأن الانسان لا يتحول بنسبة مئة وثمانين درجة في لحظة ما، لهذا كان وما يزال فحص من يرشحون لقيادة بلدانهم شرطا اساسيا، سواء ورد ذلك في كتاب له صلة بالفقه السياسي ككتاب السّخاوي او في القوانين الحديثة وذلك للتأكد من السلامة النفسية قبل الجسدية لمن يتحكمون بالبلاد والعباد !
ان دوافع العنف اكثر تعقيدا من ان تكون نتيجة عنصر واحد او بُعد واحد، فنحن نعرف في حياتنا الاجتماعية فقراء اكثر عفّة وكرما بما تيسّر لديهم من أثرياء يسيل لعابهم على قرش اذا سمعوا رنينه !
لكن التحليل الدقيق والبانورامي لدوافع العدوان والتطرف ليست ميسورة بحيث تناط بهواة او بإعلاميين لا صلة لهم بعلوم النفس والاجتماع والاناسة، ومن رفعوا شعار اعرف عدوك بعد هزيمة حزيران 1967 ادركوا ان الجهل بالعدو هو بحد ذاته سبب كاف للهزيمة . فهل بادروا الى معرفة عدوهم الارهابي بعيدا عن الصوت والصورة والسكين والراية وفيديوهات الذبح والقبور الجماعية ؟
وكما هو معروف فأن الحرب النفسية هي نصف الحرب او ثلاثة ارباعها احيانا، وهناك تقصير واضح في هذه الجبهة المهملة بحيث تجرى جراحة الفيل بابرة، وجراحة العصفور او الفراشة بالسيف !(الدستور)