في التاصيل الدستوري لوسطية الإسلام دستور المدينة نموذجا
د. مهند صالح الطراونة
28-02-2015 10:00 PM
عندما دخل سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة مهاجراً من مكة أسس دولة الإسلام، و وضع دستوراً واعياً يجمع المدينة كلها بمسلميها وغير مسلميها وهو في الحقيقة دستور يراعي حق المواطنة ويحرم الظلم والعدوان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن ثم فهو يمثل خطة دستورية وسياسية محكمة لكيفية التواصل ـبكل حب وود وفاعلية بين أبناء الدولة الواحدة.
وسؤالي بهذا الصدد ياترى كم منا إطلع على الوثيقة الدستورية النبوية أو سمع عنها، وكم من المسلمين تمعن في معاني هذه الوثيقة، وكم من الجهات التعليمة ضمنت هذا الموضوع ضمن مقرراتها سواء في المدارس أو في الجامعات ، كم منا حاول أن يعمل وفقا لبنودها من توجيهات وتعليمات إسلامية صدرة عن خير البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،فحثت على التسامح، وبعثت على الأمل في النفس حتى يخيل إلى المرء بأن لا مجال للتنافر والتناحر ولا مجال للظلم والعدوان ، طالما وضعنا هذه القواعد التي تضمنتها هذه الوثيقة مهمتنا ، وأجد أن لا مناص من طرح هذا السؤال عن الأسباب التي جعلت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يضع هذا الأمر على سلم أولويات بناء الدولة الأولى للإسلام، وفي العام الأول للهجرة، وما يعنيه ذلك من حرص على صوغ دستور يحدد الحقوق والواجبات ويحدد إطار العلاقات السياسية والاجتماعية والدينية بين مختلف أطياف المجتمع المدني آن ذاك ،والذي إتسم في تعدد الانتماءات القبلية والدينية، بلا شك أيها الأحبة الكرام أنها صورة الإسلام السمحة وإنه القبول بالآخر، واحترام حق الناس في الاختلاف، الذي بينه الله في محكم التنزيل " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" "13: سورة الحجرات".
وفي معرض حديثي عن دستور المدينة المنورة والذي لايتسع المقام إلى شرحه وهو بالمناسبة من الموضوعات ذات الإهتمام الكبير من قبل المختصين واسرفت فيه كتابات كثيره ، لكن وددتهنا القول أننا بأمس الحاجة إلى هذه الوثيقة الآن وونشرها لما تحتويه من معاني وقيم سامية نحن بأمس الحاجة لها الآن في ظل إنتشار موجة التكفير والإعتداء على صورة الإسلام ، فهذه الصحيفة التي أنشئت عقب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وبعد وموآخاته بين المهاجرين والأنصار والتي تعتبر النواة الأولى لنشأة القواعد الإسلامية التي تقوم عليها الدولة الإسلامية النموذجية ،وتكمن أهميتها بأن فيها بيان حقيقي لوسطية الدين الإسلامي واعتداله وتحريم الظلم والعدوان .
حيث افتتحت هذه الوثيقة في التأكيد عن إجماع سكان المدينة المنورة ( شعب الدولة ) بمختلف أصولهم ومنابتهم ودياناتهم المختلفة ، فلم تفرق الصحيفة بين المسلمين وغير المسلمين المستأمنين الذين يعيشون في الدولة الإسلامية ،وفي ذلك خير دليل على سماحة الإسلام واحترامه لكافة الأطياف في المجتمع دون التشدد أو التعصب لطائفة معينة .
ومن ناحية أخرى أرست الصحيفة أساس التضامن والتكافل بين سكان الدولة الواحدة بغض النظر عن إختلاف الديانات ، مع تأكيدها على تغليب المصلحة المشتركة على المصالح الفردية ،وأن المعتدي على النظام بسلوكه دسيسة ظلم ، أو إثما ، أو عدوانا، أو فسادا بين المؤمنين ،فإن مثل هذا العمل لابد أن يجد كل أفراد المجتمع بصرف النظر ماهي صفة فاعله ، خلاصة القول أن إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي وبإبرام هذا الدستور –وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة شعائرهم والعدل والمساواه .
ومن الجدير بالذكر أن الغرب وبعض مستشرقيه أكدوا على أهمية هذه الوثيقة الهامة حيث ذكر المستشرق الروماني( جيورجيو) أن دستور المدينة المنورة احتوى على اثنين وخمسين بندا، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير حرج لأي من الفرقاء .
هذا وقد شكل دستورالمدينة المنورة منهاج حياة كامل للدولة الإسلامية آن ذاك ،وضم في متنه العديد من البنود كفلت للدولة أمنها وتكاتفها حول قائدها ،ورسخت للدولة الإسلامية طريقا تسير على هدية في إطار علاقتها مع غيرها من الدول الأخرى ولعل من حسن الطالع هنا تسليط الضوء على رأي دستور المدينة المنورة بموضوع الإعتداء على النفس وإرهاب المسلمين وغير المسلمين وترويعهم ،حيث أكدت هذه الوثيقة أنها لاتسمح
تسمح بالظلم والعدوان على أحد ، ودولة فيها الدستور الواضح للحقوق والواجبات ، ولكن القبائل (وعلى رأسها قريش) وأهل الأديان المحيطة بهذه الدولة لم تقبل بوجود هذه الدولة ، بل قاومتها بكل وسائل البطش والعدوان ، وبذلت كل جهودها للقضاء عليها قضاءً مبرماً ، ولذلك لم تكن العلاقة فيما بينهم وبين الدولة الإسلامية علاقة ود وتعاون بل كانت علاقة تخاصم وحرب وعداء ، ومع ذلك استطاع الإسلام أن يربي أتباعه على اتباع العدل والقسط ، فكان من الطبيعي أن تدافع هذه الدولة العقدية عن نفسها ، حيث نلاحظ هذه الروح الدفاعية في أول آية نزلت بخصوص تشريع الجهاد : (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير)
ثم بين الله عزوجل في موضع آخر من كتابه العزيز بأن مبررات الجهاد والقتال هو انهم الظلم وأنهم والإخراج من الديار ، وبالتالي فهم يدافعون عن أنفسهم ، وعن درء الظلم ، والدفاع عن العقيدة وأماكن العبادة حتى لغير المسلمين فقال تعالى : (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ).
وأخيرا إن من حسن الطالع القول أن دستور المدينة المنورة خير حجة في وجه تلك الفرق الضالة التي شوهت الإسلام وجعلت منه دين حرب وإرهاب ،في الوقت الذي نجد أن دستورالمدينة المنورة أكد على أن الحرب في نظر الإسلام ضرورة لا يلجأ إليها إلاّ عندما تضيق السبل وفي أضيق الحالات ، وتنسد الطرق على الدعوة وقبول الإسلام ، أو الاعتراف بدولته من خلال ما يسمى بالجزية التي هي مشاركة من غير المسلم في تحمل أعباء الأمن والمواطنة ، كما يتحمل المسلمون اكثر من ذلك من الواجبات المالية من الزكاة ونحوها ولذلك لا يبدأ المسلمون بالحرب ضد غيرهم بل بعرض الدعوة عليهم أولاً ، فإن قبلوها فبها ونعمت، وإلاّ فالجزية،أي المسالمة والصلح ، إضافة إلى إحترام الإسلام لقواعد الحرب فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه (لا تقتلوا صبياً ولا إمراة ولا شيخاً كبيراً ولا مريضاً ولا راهباً ولا تقطعوا مُثمراً ولا تخربوا عامراً ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة الا لمأكل ولا تٌغرقوا نحلاً ولا تحرقوه) .
خلاصة القول أن الحديث عن هذه الوثيقة طويل بما تحمله هذه الوثيقة من عمق وزخامة في القواعد والأسس، ما يهمنا هنا إعادة نشر هذه الوثيقة على الكافة ، ففيها خير إنموذج على الفكر الحقيقي للإسلام ،,اساسا لبناء مجتمع مدني إسلامي يحترم الكرامة الإنسانية لجميع أعضائه وينبذ الإعتداء وقتل النفس بغير حق ، وأعتقد أن هذا محمور هام يجب تضمينه حتى في مناهجنا في المدارس والجامعات .
المحامي الدكتور مهند صالح الطراونة
Tarawneh.mohannad@ yahoo.com