اتخذت هذا الصباح قرارا جريئا بأن أشحن نفسي عاطفيا وأزيد من مساحة اللوعة والألم في أعماقي ، تماما كما يقوم أحدنا بشحن هاتفه الخلوي قبل توجهه إلى عمله كل صباح . غير أن الفرق بيني وبين الهاتف الخلوي أن الهاتف قادر على تفريغ شحناته تدريجيا مع انقضاء ساعات النهار ، أما أنا فإن دفعة الشحنات العاطفية التي تلقيتها منذ الصباح ما زالت عالقة في دماغي واستعصت عليها كل المنفذ التي قد تتسرب من خلالها ، وهي بذلك تكاد تطيح برأسي مهددة بانفجار من النوع الذي لا يبقي من العقل شيئا ولا يذر .
سبب هذا القرار أنني فتحت عيوني على تقرير في قناة العربية أعدته مراسلة أجنبية . التقرير أسمه " زيارة إلى فلسطين " وهو يتحدث عن مخيم جنين بعد ست سنوات من معركته البطولية التي خاضها ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي والتي تمخضت عن إكليل غار طوق به أبطالُه جبينَ أمتهم إلى يوم الدين .
التقرير عرض حياة المخيم البسيطة ودخل بيوت الشهداء وحاور أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالا أبرياء لم يدركوا بعد حجم الفاجعة التي حلت بهم بفقدانهم آباءهم ، لكنَّ هؤلاء الأطفال وبكل ما في الكون من براءة مصرون على كلمة واحدة هي .. سننتصر .. يقولونها مهللين فرحين مترافقة مع إشارة النصر التي صدَّرَها الشعب الفلسطيني الباسل إلى العالم كله فباتت علامة مسجلة باسمه .
عجيب أمر أهل المخيم ،، فبرغم كل مآسيهم وصعوبة أوضاعهم فإن الفرح يحتل مساحة كبيرة من حياتهم ، وهم مقبلون على الحياة كما يكون الإقبال ، وكما تراها العروس التي التقت بها المذيعة في يوم زفافها . حتى مقبرة الشهداء بدت جنة يانعة بما زينوها من أعلام وصور وعبارات كُتبت بكل الألوان ، حتى لكأنك لا تنظر إلى مقبرة بل تنظر إلى بانوراما ضوئية تبهر العين وتشرح الخاطر .
فلما انتهى التقرير ألقيت عصا الطاعة لهواجس وأحلام منسية طوعا أو قسرا ، واستبدت بي ذكريات الزمن الجميل ، زمن " موطني " لإبراهيم طوقان . ففزعت إليها وشنَّفتُ آذاني وكل أجهزة الاستقبال ، فكان أصدق الشعر أبسطه وأرقه ، وكان تأثيرها في وجداني الحاضر هو نفسه كما كان في وجدان فتى لم يجاوز مرحلة الابتدائي حين كان يسمع هذا النشيد يوميا بشكل يشبه الإدمان ، فيمتلأ حماسا ويلتهب عاطفة خصوصا إذا وصل النشيد إلى مقطعه الذي يقول :
نستقي من الردى
ولن نكون للعدى
كالعبيد
لا نريد لا نريد
ذلنا المؤبدا
وعيشنا المنكدا
لا نريد بل نعيد
مجدنا التليد
موطني
ولكن موطني هذه المرة أثارت أشجانا أضافية ، بل آلاما وقروحا لا تقوى الجبال الرواسي على حملها . فقصيدة موطني هذه أصبحت النشيد الوطني لجمهورية العراق بعد أن كان الذي لا يخفى عليكم . وكأن هذا القلب المتعب بحاجة إلى من يضيف إلى أعبائه أعباء جديدة . فالويل لهم كيف استعاروا هذا الكلام الجميل والمعنى المباشر العذب فألصقوه بخيبة ما بعدها خيبة ، وهل أبقوا من معنى لوطن أو بلد ؟ وهل ما يجري الآن هناك غير شكل قاس من أشكال العبودية والتبعية ؟ وهل هناك عراقي حر لا يعاني العيش المنكد والعنت والمشقة ؟ سحقا لمن وضع هذا النشيد شعارا للمسخ السياسي الذي ما كان ولن يكون أبدا عراقنا الحبيب .
فلما قررت أن أمعن بزيادة في عملية الشحن العاطفي انتقلت من ديوان إبراهيم طوقان إلى ديوان رشيد سليم الخوري أو الشاعر القروي ، ربما لأن غربة رشيد الخوري في بلاد المهجر تذكرني بغربتنا نحن في أوطاننا الأم ، فكل غريب للغريب نسيب ، وهو برغم سنوات البعد التي جاوزت الخمسين عاما ما نقص حب بلاده في قلبه مثقال ذرة ، بل انه لما عاد إلى لبنان بعد كل هذه العقود قال :
حتّامَ تحسبُها أضغاثَ أحلامِ
سَبِّحْ لربك وانحر أنت في الشام
المهم أن هذا الشاعر واحد من الشعراء الذين خلدوا مآثر بطولية في تاريخ الأمة ، فقد تحدث عن ثورة جبل العرب ضد الاستعمار الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي ، الثورة التي كان بطلها سلطان باشا الأطرش الذي خاض وأهله معركة بطولية ضد القوات الفرنسية واجهوا فيها الدبابات بأسلحة بدائية وصدور عارية إلا من الإيمان بالنصر وحب الأوطان ، فحققوا انتصارا مذهلا تقهقر الفرنسيون على إثره مجللين بالخزي والعار معترفين بهزيمتهم المدوية . فخلد الشاعر القروي تلك الملحمة الحربية بملحمة شعرية كان أجملها قوله :
فَيالَكِ غارة لو لم تُذعْها
أعادينا لكذّبنا المذيعا
وَيالَكَ أطرشا لما دُعينا
لثأر كان أسمعَنا جميعا
مآثر رائعة أشك أن الأجيال التي من بعدنا قد تهمها " سواليف " من هذا النوع .
على سيرة الأجيال ، هل تعلمون أن جيلنا – جيل السبعينات – ينفرد عن الأجيال التي سبقته والتي لحقته بأنه الجيل الوحيد الذي لم يعط الفرصة ليستوعب متغيرات الحياة ومتناقضاتها . فقد تغير العالم كثيرا في المرحلة التي كنا فيها لم ننضج بعد .. الاتصالات تقدمت تقدما مذهلا ، وتكنولوجيا الحاسوب حلت محل كل شيء كنا قد ألفنا استعماله ونحن صغار ، القلم أصبح كيبورد وأدوات الهندسة ألغاها برنامج الأوتوكاد ، والعدو أصبح صديقا ، و" فلسطين داري ودرب انتصاري " تجزأت وباتت الطريق إليها خاضعة لخارطة مبهمة ، والمحتلون أصبحوا أبناء عمومتنا وذوي أرحامنا . متغيرات كثيرة جدا واجهتها كل الأجيال . لكن الذين سبقونا واجهوها وقد بلغوا مرحلة من النضج مكنتهم من استيعاب الوضع الجديد ، والذين من بعدنا خرجوا إلى الحياة فتعاملوا مع الوضع متغيرا جاهزا فلم يحسوا بصدمة ، أما نحن فقد انتُزعنا انتزاعا من طفولتنا ومبادئها الراسخة ففُرضت علينا مفاهيم جديدة بين عشية وضحاها .
للعلم هذا الكلام عن المتغيرات يدخل في صميم موضوع الشحن العاطفي وإن بدا للوهلة الأولى خروجا عن النص .
آه منك يا قصيدة موطني فقد أثرت أشجانا لم تكن لتخطر على البال .
وللعلم أيضا أنا ما زلت حتى هذه اللحظة مستمرا في عملية الشحن ، لأن سيرة سلطان باشا الأطرش قادتني إلى سيرة المرحوم حابس باشا المجالي ، فقد التقيا بعد أن لجأ سلطان باشا الأطرش إلى عشائر الأردن لما ضيَّق الفرنسيون عليه الحصار ، فشاهد حابس باشا الذي كان ما يزال فتى يافعا ، وتنبأ له بمستقبل عظيم . فوجدت أن رحلتي مع البطولات لن تكتمل إن لم أعد إلى شيء يتحدث عن بطولات جيشنا العربي في معركة باب الواد .. وها أنا أفعل الآن .
samhm111@hotmail.com