الساعة تقترب من الخامسة مساء، والرحلة الى الشمال البارد، وفي ذاك المطار العربي، يجلس قريبا مني في المقهى، هندي، عيونه حمراء من فرط التعب والسهر والإرهاق، يشرب القهوة، ونظراته زائغة خائفة، والاضطراب يرتسم على محياه.
يستحكم بي الفضول، ربما بسبب المهنة، وطبيعتها، فأفتح معه حواراً، قائلا له: إن الطقس حار، خارج المطار، والكلام يجر كلاما، واذ به هندي هارب من كردستان العراق، بسبب المشاكل الأمنية، ومشاكل «داعش»، في غير موقع ومكان، والشركة الهندية سحبت كل عمالها، وهو ينام منذ يوم في ترانزيت المطار، بانتظار رحلته الى بلاده.
يتشجع ليسألك عما نفعله باعتبارنا مسلمين، ولماذا نرتكب كل هذه الجرائم، ولماذا ننتج القتلة، فتبدأ مطالعة طويلة، محاولا إفهامه، ان هؤلاء ليسوا منا، ولاينطقون باسمنا، وإلا يحق لي أن أقول إن كل الهنود السيخ مثلا، قتلة ومجرمون، لأن في بعضهم تطرفا، ولأن بعضهم قتل مسلمين في الهند؟!.
هو ذاته عاش بين اكراد العراق السنة، ولم يؤذه احد منهم، فلا يجيب صديقنا، لأن الصوت ضد الاسلام هو الأعلى والطاغي، والكل جاءته الفرصة لإهانة الاسلام والمسلمين، ووضعهم تحت المطارق، حتى لايرفعوا رؤوسهم ابداً.
في مواقع اخرى، اعلامية وسياسية ودينية، نستغرق كلنا، لنقول اننا لسنا قتلة، لسنا مجرمين، وأشطرنا يرد على الاتهام بالجرائم، باستدعاء جرائم الأمم الأخرى، لإثبات ان التطرف بشري، وان الاحتلالات الاوروبية للمنطقة والعالم، قتلت الملايين، بالاسلحة والسكاكين والحرق النووي والكيماوي سابقا.
بعضنا ايضا يريد ان يثبت ان في كل دين تطرفا ومتطرفين، والامثلة والادلة لاتعد ولاتحصى، والخلاصة اننا بتنا في موقع دفاع عن النفس، متهمين، مشبوهين، فلانجد الا بشاعة الامم نستدعيها ،مثلا ومثالا لنوازن الصورة، ولنثبت ان التطرف بشري في اساسه وليس دينيا.
الاعلام في العالم، يضرب جريمة المسلم، بألف ضعف، ويجعلها الحاضرة، وُيغيّب غيرها، فقتل المسلمين في بورما ودول اخرى، بما فيها دول عربية على يد انظمتها، اكثر بشاعة من داعش، والمسلمون في العالم تم سفك دمهم واغتصاب اعراضهم وهتك حرماتهم، والتمثيل بجثثهم معروف، من بورما الى افريقيا، غير أنه لا أحد يريد ان يتذكر، فالجريمة لا تعدُّ جريمة الا اذا كان صاحبها مسلما، وغير ذلك، يتعامى الإعلام في العالم عن المسلمين اذا كانوا هم الضحايا، والكلام لايحمل تحريضا على العنف، ولا تبرئة لـ»الدواعش» وتطرفهم.
ليس في الكلام تبسيط للقصة، ولاتهوين للجرائم، لكننا نريد التذكير هنا، بأن اختطافنا الى زاوية الدفاع عن انفسنا، امر مربك، واذا كان بين المسلمين شرور، فهي مثل الشرور التي بين الامم اخرى، ولدينا الاف الادلة على الجرائم الفردية وجرائم الحروب وجرائم المتطرفين من كل ملة ودين وعرق وشعب في هذا العالم، وهذا هو الحد الادنى في الرد، وما هو أهم من موازنة صور الشر في كل الامم، تلك الصورة التي تقول اننا لانقلد الامم في جرائمها ولا نرد بذات الدموية ايضا، وديننا في الاساس دين رحمة وعفو واحسان.
الذين يقتلون البشر ويحرقون الكتب، ويهدمون اثار العراق، كما قبل يومين، لم يقولوا لنا كيف ترك «عمرو بن العاص» وصحابة الرسول الذين دخلوا مصر فاتحين، اثارها الفرعونية دون هدم، والسبب معروف فالهدم لايصح الا للتمثال المعبود، وغير ذلك هي (تحف فنية)، بل ان بعض اثار العراق هي اثار (السبي البابلي) التي يريد اليهود تدميرها وحرقها، لأنها تذكرهم بالسبي البابلي في بعضها، فجاء نفر منا، بمناشيرهم الكهربائية، وأدوا المهمة مكبرين مهللين.
زمن فتن وحرائق، فتن تنزع المسلم من دينه، فيضعف إيمان كثيرين، وينقلب كثيرون، ويصير المسلم منبوذا مطاردا متهما، وبعضنا يتنصل من كل دينه او محبته لنبيه حتى يتطابق مع دنياه، زمن الفتن الذي اقبل، فلا نزداد فيه إلا تمسكا بالتوحيد، جمرا أكان أم ناراً!
مناسبة الكلام ما قاله أحدهم لي: لم أعد مسلما..خلي الإسلام ينفعك لحالك!! الدستور