لم يكتف الإرهابيون في الموصل بتدمير النسيج الاجتماعي للمدينة، وتهجير سكانها، وفرض نظام حكمهم الوحشي على من تبقى منهم؛ بل ذهبوا أبعد من ذلك، عندما أقدموا على جريمتهم النكراء بحق متحف نينوى التاريخي. وقبل أن يصحو العالم من صدمته، ارتكب الإرهابيون جريمة ثانية، تمثلت في تدمير مسجد الخضر التاريخي في المدينة، والذي يعود للقرن التاسع الهجري. هو ثالث مسجد تاريخي يتم هدمه في الموصل.
في دقائق معدودات، أجهزت مطارق الإرهابيين على تراث يعود لآلاف السنين. مجموعة من العناصر الهمجية استباحت المتحف، وحطمت كنوزه الأثرية من تماثيل وقطع تاريخية لا مثيل لها في متاحف عالمية. حجتهم في ذلك أنها أصنام محرمة!
المجرمون الأغبياء لم يدركوا أنها موضوعة في متحف التاريخ، وليس في معابد يصلي لها الناس كما كانت الحال في الزمن الجاهلي. ولم يفهموا، ولن يفهموا، بأن أرض العراق، وكل أرض في منطقتنا، مزروعة بالشواهد التاريخية لحضارات عريقة سادت في الماضي. شواهد تؤكد وتوثق تاريخ الإنسانية والحضارة، حيث كانت هذه الأرض بدايتها ومنطلقها.
لكن هؤلاء القتلة لا يعرفون قيمة الحضارة الإنسانية. المرتزقة الوافدون من أصقاع العالم الفقير بالتجربة الحضارية، لم يقرأوا تاريخ العراق وبلاد الشام؛ مهد الحضارات، ومنبع الفكر والمعرفة، وبلاد الأبجدية الأولى. لم يجارهم في جرائمهم بحق التراث الإنساني سوى أقرانهم من المتطرفين في أفغانستان الذين ارتكبوا نفس الجرائم بحق من أهم الكنوز الأثرية؛ تمثالان لبوذا قاموا بتفجيرهما العام 2001.
من شاهد شريط الفيديو الذي يوثق جريمة "داعش" في متحف الموصل، كان ليلاحظ أن الإرهابيين أول ما ينقضون على رأس التمثال؛ يقطعونه أو يحطمونه، تماما كما يفعلون مع رهائنهم من البشر الأحياء. إنه الحقد الدفين على كل ما يرمز للحياة وينبض بها. والتماثيل، وإن كانت من الصخر والحجر، لكنها بحق تنبض بالحضارة الإنسانية. وعداء الإرهابيين للحياة يطال التاريخ كما الحاضر.
قبل جريمتهم الأخيرة في متحف الموصل، ارتكب "داعش" جرائم أفظع بحق التراث الإنساني والحضاري في سورية والعراق، حين قاموا بتهريب وبيع آلاف القطع الأثرية التي سطوا عليها، مستغلين جشع تجار الآثار. وقد حققوا من وراء تلك التجارة مبالغ طائلة، استخدمت لشراء الأسلحة ودفع الرواتب لمقاتليهم المرتزقة.
وتشير تقارير أممية إلى أن كنوزا أثرية لا تقدر بثمن جرى تهريبها من سورية وبيعها في الخارج لصالح تنظيم "داعش"، وتجار من مختلف الجنسيات.
لكن عندما لم تعد طرق تهريب الآثار متاحة بعد تشديد الإجراءات الدولية على الحدود مع سورية والعراق، أصبحت هذه الكنوز أصناما بالنسبة لداعش، يجب تحطيمها. أما عندما كان بيعها متاحا، فقد كانت أموالها حلالا!
المفجع والمحزن فيما حل بكنوز الموصل، كان صمت الناس هناك على الجريمتين؛ بحق المتحف والمسجد التاريخي.
لم يرفع أحد صوته في وجه الإرهابيين، ولم يفكر شخص واحد في الوقوف في وجههم. جريمة كهذه تستدعي انتفاضة شعبية في المدينة.
صحيح أن ثمن المواجهة مع "داعش" سيكون باهظا، لكن الشعوب التي تعجز عن حماية إرثها الحضاري، لن تقدر يوما على أن تصون مستقبلها، وستجلس في انتظار الخلاص على يد القوات الأجنبية. الغد