لن تفارق الصورة خيالي.. قبل عشرين عاماً حدث هذا.. كانت الدنيا ليلاً من ليالي الأغوار حينما رأيتُ من بعيد بيتنا محاصراً بالجنود وسيارة الشرطة أمامه وهناك من اعتلى أسطح البيوت المجاورة له.. كنتُ أظنّ أن حدثاً جللاً حدث في بيتنا.. وإلا لمَ كل هذا الحشد المسلّح..؟، تركتُ صديقيّ ورحتُ أركضُ باتجاه البيت كالمجنون أو كالتائه..
وحين وصلت لم أكن أصدّق أنّ كل هذا من أجلي أنا وأنهم كانوا ينتظرونني و جاءوا لأخذي ...!!
لم تهمني الكلبشات حينها وهم يقتادوني ليلاً.. فقط كنتُ أفكّر بإجابة سؤال واحد: أنا شو عملت..؟، فأنا أخاف من حمل طلقة مسدس ولم أنتمِ لأي شيء مخالف للقانون.. وبعد جهد جهيد قال لي كبيرهم: جئنا من أجل كتابك «بين يدي أمير المؤمنين».. ضحكت وعرقي ينزل على عيوني وعلى كل جسمي.. قلتُ له: بتمزح..!!، فأكّد لي ذلك مرة أخرى.. فأغرقت في الضحك.. وقلت في نفسي: الموضوع تافه.. كلها يومين أو شلّوطين وكفّين وبزقة.. وكلمة ما تعيدها وينتهي الأمر..!!
هو ليس كتاباً.. هو كُتيّب.. ست أوراق (A4) مطبوع على الوجهين وكل وجه مقسوم لصفحتين.. مصوّر منه أربع نسخ فقط تمّ مصادرتها جميعاً.. ولم يكن الموضوع تافهاً كما اعتقدت.. بل تمت محاكمتي بأمن الدولة ثلاث سنوات وتم تخفيضها إلى سنة ونصف.. قضيتها في شلالات (الجويدة) ومنتجعات (سواقة)..
ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن نسخة من الكتيّب. عشرون عاماً وأنا أبحث.. وبالصدفة يتصل بي الشاعر غازي الذيبة الذي يهتم بشراء وبيع الكتب القديمة من أجل مشروع الأزبكية.. ويقول لي: لك عندي هديّة.. وتكون الهديّة كتابي: بين يدي أمير المؤمنين..!
أين وجدته يا غازي..؟ قال: اشتريتُ مجموعة كتب من الجامعة الأردنية فكان كتيبك موضوعاً وسط كتاب آخر..
ما أجمل لقائي به.. عشرون عاما.. تغيرتُ أنا كثيراً.. تبدلت أفكار وتولّدت أفكار.. لكنّ هذا الكتيّب ظلّ علامة فارقة في تاريخ حياتي ..فكلّ حرف فيه دفعتُ ثمنه سجناً وألماً وحرقة.. وأشياء أخرى.. الدستور