facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss




الخطابة وحدها لا تصنع الواقع


صبري الربيحات
25-02-2015 03:47 PM

في ثقافتنا تراث لا يضاهى للخطابة والخطباء. وربما أننا أكثر أمم الدنيا براعة في القول. ففي فضائنا العام وجدت ساحات وميادين وأسواق، يلتقي فيها الشعراء والخطباء مع العامة. والمنابر تنتشر ليعلوها الخطباء في كل المناسبات. للخطابة فن مثل الكتابة والتعبير، وللخطباء سمت يميزهم عن غيرهم من غير الخطباء. ومنذ قرون طويلة، دخلت الخطابة دور العبادة، لتصبح جزءا من الطقوس والشعائر، وليظهر نوع من الخطابة تحكمه قواعد وأسس وزمن يلتزم بها الخطباء منهجا وأسلوبا.
لكن الخطابة ليست وقفا على الثقافة العربية، بل هي فن يجري تعليمه والتدريب عليه في كل أرجاء الدنيا. وهي مهارة تلزم الساسة والقادة والشخصيات المؤثرة في كافة الميادين. ففي الولايات المتحدة، مثلاً، يتعلم الطلبة مخاطبة الجماهير كمهارة اتصالية في المدارس، كما يتدربون على ذلك في الجامعات. ويطرح العديد من الجامعات هناك مساقات في الخطابة والمناظرات والاتصال الفعال للطلبة الذين سيختارون العمل في الإدارة العامة أو السياسة والإعلام.
وفي غالبية اتحادات الطلبة، هناك جمعيات خاصة بالمناظرات والخطابة، تشترك فيها أعداد كبيرة من الطلبة ليطوروا مهاراتهم في الاتصال والتأثير، وكسب التأييد للقضايا التي يتبنونها.
من الصعب على أي طامح إلى موقع سياسي أن يصل إليه إذا لم يكن لديه قدر من المهارة في الخطابة والمناظرة والتأثير. فخطب الرؤساء والسياسيين ومناظراتهم تراث أدبي وسياسي، يعود له الساسة والدارسون والطامحون إلى مستقبل سياسي، عند كل مفصل في حياة الأمة الأميركية.
الفن والإبداع والتاريخ والقيم والروح التي تنبعث من الجمل والكلمات والأحرف التي تتوافق مع تعابير وإيماءات الخطباء وتلاوين وإيقاعات حناجرهم، تجعل الجمهور مشحونا ومنتشيا ومنضبطا، يتحرك مع الصور التي ترسمها الكلمات، ومشدودا إلى القضايا التي عبرت عنها الخطبة واقعا وأثرا ومستقبلا، من دون التجاوز على حق الجمهور في القراءة والتحليل والاستنتاج.
الطلبة، ومرشحو الرئاسة، والصحفيون، لا يجدون غضاضة في استعارة جملة من خطاب لرئيس من رؤساء بلادهم قبل مئتي عام؛ فما يزال جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وأبراهام لنكولن وروزفلت وكيندي، يلهمون الشباب الطامحين، كما الرؤساء الذين يؤصلون قراراتهم غير الشعبوية أحيانا من خلال الاستعانة بمقولات وأفكار الرؤساء المؤسسين، ممن تركوا رصيدا يشجع على الاستعارة منه.
في الأوساط العربية، فقدت الخطابة بريقها وتأثيرها؛ فلم تعد ذلك الفن الجميل الذي يستخدمه الساسة والزعماء والسياسيون للتواصل مع جماهيرهم والتأثير فيها. فقد اندثر الكثير من أحلام الأمة بالتزامن مع خطب ألقيت لتعدهم بالنصر والعزة.
وفي مجتمعاتنا للخطابة حكاية أخرى؛ فهي فن لا علاقة له بالواقع ومجرياته، فن يستند إلى الغيبيات والبلاغة، وهدفه توليد الحماس والاستيلاء على المشاعر.
خلال تاريخ الأمة الحديث، ارتبطت الخطابات الكبرى التي ألهبت مشاعر العرب بهزائم مدوية؛ إذ خسرت الأمة فلسطين بالتزامن مع الخطابات التي كانت تعد بإلقاء اليهود في البحر.
ربما أن تجربة الأمة العربية، ومحدودية تفاعل مكون البداوة فيها مع الأرض، قد أسهم في ذلك، ليصبح القول تعويضا عن الفعل، والبلاغة في صورها المتخيلة الجميلة بديلا عن الواقع.
وما من شك في أن للخيال أهمية في تولد الأفكار وابتكار وسائل تحقيقها، وفتح آفاق للطاقات الخلاقة. فالخيال العلمي مهم في دفع العلم وتنشيط الخيال معا. لكن أن يقتصر الإبداع على الصور التي لا انعكاس لها على الواقع، فذلك أمر في غاية الغرابة.
للبلاغة وصورها تاريخ تولد في بيئة تفتقر إلى المثيرات؛ فالصحراء الشاسعة بلا معالم، والظروف المعيشية القاسية، والبحث الدائم عن الماء.. قضايا أشعلت خيال العرب، لكنها لم تغير الواقع. فجاء الشعر ليغطي الفجوة بين واقع الصحراء وإنسانها المحروم والرغبة في تلبية رغباته وتجاوز تحدياته التي تتسع لتشمل الخوف والجوع والحب والموت والكرامة. فنحت الشعراء والخطباء صورا تكميلية لواقعهم، ظنوا في خيالهم أنها جزء من الواقع، لكنها في الحقيقة بقيت مفصولة عنه.
للبلاغة العربية قواعد وأسس وفنون ندرسها وندرسها، ونستخدمها في خطبنا من أجل التاثير في السامعين. لكن هذه الخطب بقيت على قطيعة مع الواقع المعاش.
في كل المناسبات التي تستدعي الخطابة، يعد الساسة خطبهم التي قد تلامس الموضوع والمقام الذي أعدت لأجله أو لا تلامسه. فبعد أن يشكروا الله ويصلون على النبي، ينطلقون -غالبا- في سرد حكم وأحاديث نبوية ومواعظ وأشعار وأقوال مأثورة لا صلة لها بالموضوع، ولا مبرر لوجودها، غير أنها أعجبت الخطيب عندما سمعها، فراق له أن يستخدمها ولو خارج السياق وفي غير مكانها.
الخطابة العربية فقدت بريقها وألقها بسبب تدهور أوضاع الأمة، وضعف إيمان الجماهير بمن يتصدون لقضاياهم، ووقوع الفن أسيرا للبنى الموروثة إعدادا وإلقاء، وموضوعا. فالخطابة لا تغني عن الفعل، والخطيب ليس قارئ نشرة لا يعي مضامينها. الخطبة رسالة لا تتحقق أهدافها إن لم يشعر المتلقي بصدقها وواقعيتها، وقدرة الخطيب على الالتزام بها.
في هذه الأيام، بعض الخطباء يدفعك إلى التساؤل وأنت تسمعه: هل هو الذي يتحدث، أم أحد آخر إلى جانبه؟

"الغد"





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :