الشريط الأخير الذي صدر عن تنظيم "داعش ليبيا"، يحاكي أسلوب داعش "التقليدي" في تنفيذ جريمة الذبح وقطع الرؤوس؛ إذ يقوم عدد من المسلّحين بقطع رؤوس 21 مصريّاً، كانوا يعملون في ليبيا قبل تدهور الأوضاع هناك، جريمتهم الوحيدة أنّهم أقباط مسيحيون، فيكون جزاؤهم في عرف التنظيم هذه الطريقة البربرية في القتل!
إذا تجاوزنا الإدانة والاستنكار البدهيين الطبيعيين، فإنّ مؤشرات ذلك تذهب بنا إلى سيناريو الجنون والجنوح الذي قد يجتاح العالم على قاعدة القتل والذبح على الهوية الدينية والطائفية الأوّلية، فيصبح السُنّي أو الشيعي أو الكردي أو المسيحي.. مستهدفاً فقط لأنّه كذلك، في أيّ مكان، كما حدث مؤخراً في جريمة "تشابيل هيل" بالولايات المتحدة، والتي ذهب ضحيتها ثلاثة مسلمين، أو جريمة المقهى في سيدني، وغيرها من حوادث إرهابية متبادلة.
المرعب في شريط "داعش" الجديد أنّ التنظيمات الفرعية المنتشرة تحاكي التنظيم الأكبر؛ أي إنّ هذا النموذج ينتشر مثل العدوى في الفضاء، بالإضافة إلى ظاهرة "الذئاب المنفردة" التي تجعل من كل شخص مرشّحاً لأن يكون قاتلاً أو مقتولاً. وهو السلوك نفسه، بالمناسبة، الذي تمارسه الميليشيات الشيعية، والتي قامت في الأيام الماضية بقتل مجموعة من السُنّة (يرافقون النائب في البرلمان العراقي زيد الجنابي) بطريقة بشعة، وألقت بجثامينهم في مكب نفايات.
تتحدث تقارير أمنية عربية وغربية اليوم عما يقارب 100 ألف شخص ينضمون إلى الميليشيات الشيعية المتشددة، ويشكلون قوات الحشد الشعبي والدفاع الوطني في كل من سورية والعراق، بالإضافة إلى حزب الله اللبناني والحوثيين. وجميعهم مؤطرون على أسس طائفية مذهبية متطرفة. فحتى لو انتصر التحالف الدولي اليوم على "داعش"، فإن هؤلاء سيشكلون رقماً صعباً وقوة خطرة في المستقبل، لا يقلون تطرفاً ولا دموية عن هذا التنظيم السنّي المتشدد!
هي، إذن، دوّامة مفتوحة، تؤذن بخطف مزيدٍ من الأرواح، وإغراق المجتمعات في صراعات ماضوية بائسة، وإلغاء أي معنى للأمن الشخصي أو السلم الأهلي. وربما كان لافتاً بين أهداف شريط "داعش" الأخير حرص التنظيم على استنبات أو تأجيج الفتنة الطائفية في مصر، عبر استدعاء حالة كاميليا (الفتاة المسيحية التي أسلمت وثارت حول قصتها أزمة كبيرة)، في محاولة لإدخال مصر في هذا النمط من الصراع، واستدراجها للنموذج القائم على الفوضى والحرب الداخلية الطائفية والدينية أو العرقية؛ أي الدولة الفاشلة. وهو أمر ممكن في ظل السلطة الأمنية العسكرية القمعية الحالية.
ربما ذلك يقودنا إلى جوهر الصراع المستقبلي المقبل. فنحن أمام نموذجين سائدين اليوم في العالم العربي، بينهما علاقة سببية وطردية، وهما الدولة الفاشلة الاستبدادية التسلطية، وتنظيم "داعش" وما شاكله. ولأنّهما شركاء؛ كما يظهر في الإقصاء والتهميش والتكفير والذبح والقتل، سواء كان ذلك عبر السجون والمعتقلات أو الحروب الداخلية الأهلية، أو البراميل المتفجرة أو المفخخات، أو الانتحاريين، فإنّ مواجهة "داعش" لا تكون عبر ذات المنبع الذي ولّدها، بل ذلك سيدعم النموذج الذي تمثّله ويجذّره؛ إنّما المواجهة الحقيقية تكون بنموذج مختلف آخر، يتناقض جوهرياً مع هذا النموذج البائس العدمي، ويتناقض مع الشروط التي أنتجته، ألا وهو
نموذج الدولة الديمقراطية التعددية المدنية، دولة القانون والمواطنة والحريات والعدالة النسبية.
الفيديو الأخير تأكيد بأنّ "داعش" اليوم ليس تنظيماً عسكرياً فحسب، بل هو "نموذج" وثقافة تدميرية تنتشر، عسكرياً، كما هي حال الميليشيات الشيعية المتطرفة، وغيرها من قوى طائفية ودينية وعرقية قائمة على الكراهية والإقصاء. ولا يمكن أن يواجه ذلك بنموذج الدول العربية التسلطية، بل بنموذج مناقض تماماً، وسياسات مختلفة، تفتح آفاقاً سياسية وإنسانية ومجتمعية رحبة، بدلاً من حالة الإغلاق والانغلاق والتقوقع الراهنة. الغد