في عالم بلا حدود، وبلا خفايا ولا اسرار، وفي ظل ثورة الاتصالات وانكشاف العالم على حقائق لا تخطر في بال احد، اصبح التطرف العابر للحدود والقارات والاجهزة قادرا على اجتراح المعجزات والمفاجآت. واصبح من المفترض ان نتتبع الجذور لتقنية اجوائنا منه ، بالحوار والحكمة بدل القمع والعقاب.
ترى، من يفكر في بلادنا الاسلامية - مثلا - باحياء المناظرات العلمية والحوارات المفتوحة مع الشباب الذين اصيبوا بالتطرف ، ومن يفكر في اقتحام سجوننا لمعرفة افكار هؤلاء الشباب ومحاولة اقناعهم بسوء ما يفكرون به وخطئه بالحسنى والمحبة ، ومن بوسعه ان يبادر الى انقاذ هؤلاء من “جهلهم” او قطع الطريق على التعصب والكراهية وردود الانتقام التي تشكل قاسما مشتركا لشعورهم ضد مجتمعهم وضد الآخر الذي لا يرى الاّ استئصالهم؟ اتمنى ان نسمع من الغيورين على ديننا وبلادنا تجربة واحدة تثبت ان حلول الحذف والقمع اجدت في اقناع متطرف واحد بالعودة للاعتدال.. او التوبة مما اقترفه من افكار واعمال.
لدينا في العالم العربي اكثر من تجربة لمواجهة الفكر المنحرف والمتطرف، بعضها اثبت نجاعته في اقناع الشباب للعودة الى جادة الصواب ، وبعضها فشل - للاسف - في التأثير فيهم، وزادهم - احيانا - تشددا وعنفا.
قبل اعوام انتهت الحوارات التي قام بها بعض العلماء في مصر مع اعضاء بعض الجماعات المتطرفة داخل السجن الى مراجعات فكرية عميقة ، اعاد فيها هؤلاء الشباب النظر بكثير من مناهجهم الفكرية ، ومواقفهم العقدية ، واصدروا نحو اثني عشر كتابا وثقوا فيها خلاصاتهم. وبذلك نجحت تجربة الحوار والاقناع وتسنى للحكومة ان تفك قيدهم ، وتستفيد من خبرتهم ومراجعاتهم في التأثير على الآخرين واعادة الأمن والاستقرار للبلاد.
في السعودية ايضا تجربة اخرى تقوم بها هيئة المناصحة ، وقد نجحت - لحد ما - في اقناع من يسمون بالفئة الضالة في التراجع عن افكارهم المتشددة ، وسمحت لهم هذه المراجعات بالعودة الى مجتمعهم وممارسة حياتهم بعيدا عن السجون والعقاب.
والشاهد هنا ، ان الارضية التي يخرج منها الغلو والتطرف ، وكذلك العنف والارهاب ، ارضية فكرية ، ولا يمكن علاجها بدون الفكر والمحاججة والاقناع ، واذا كانت الحلول الامنية قد ساهمت - مؤقتا - في تطويق هذه الظاهرة ، الا انها لا يمكن ان تجهز عليها بدون معالجات فكرية اولا واجتماعية وسياسية ثانيا ، وكل ذلك بالعقل والكلمة والحوار لا بالاكراه والعنف ومناهج الاقصاء ، فهؤلاء الشباب الذي انحرفوا عن جادة الاسلام عن جهل وتغرير ، وبدافع الحماسة احيانا للدفاع عن عقيدتهم نتحمل نحن كمجتمع جزءا من مسؤولية انحرافهم وانتقالهم الى دائرة الاجرام احيانا ، المؤسسة الدينية تتحمل بعض هذه المسؤولية ، وكذلك المؤسسة التربوية والاعلامية وغيرها ، ومن الاولى ان تكون تجارب الحوارات والمراجعات التي تنطلق من التشخيص السليم اللازمة والظاهرة ، ومن الاحساس بضرورة مشاركة الجميع في حلها هي الطريق لاقناع هؤلاء المرضى والعمل على اعادتهم الى مجتمعهم متعافين سالمين.
لا يمكن النظر الى التطرف على انه منتج اسلامي ، حتى وان كان يكمن تحت لافتة اسلامية يستمد منها ادلته وشرعيته ، فالعالم كله يعاني اليوم من الارهاب ويصدره إلينا ، ومع ان تحصين العقل والفكر الاسلامي من هذه الجرثومة بالعمل على ابراز حقيقة الاسلام المستنير وتوجيه النشء الى معرفة مقاصده الانسانية مسألة ضرورية ، الا ان تحصين هذا العقل والمجتمع ايضا يحتاج الى مهادات وميادين اخرى ، اجتماعية وسياسية واقتصادية ، يخرج منها هذا التطرف ، تظل مسألة ملحة ايضا وأيضا. الدستور