السؤال ليس، فقط، كيف وصلت الأمور في سورية والعراق إلى هذه الوحشية، كما طرحت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية؟ بل، أيضاً، كيف وصلت النخب والمجتمعات العربية إلى هذا المستوى من الانقسام والتجاذب والاختلاف حول قيم جوهرية؛ كالحق في الحياة والديمقراطية، وتجريم التعذيب والقتل والذبح؟! كيف تمرّ مشاهد القتل والتعذيب والذبح والمجازر الهائلة من دون أن يرف لنا جفن؛ فضلاً عن الخطاب الخطر الذي أصبح يبرر ذلك بدعاوى دينية ووطنية أو قومية أو أيديولوجية، بلا أدنى اعتبار للقيم الإنسانية الأساسية؟!
يقشعر البدن من العمليات الانتحارية في بغداد، والتي يذهب ضحيتها مدنيون لا ذنب لهم؛ لنجد أنّ الميليشيات الشيعية تمارس القتل والصلب والإبادة نفسها في المدن والأنحاء التي يخرج منها تنظيم "داعش"! ولم يفق الناس من جريمة اغتيال الطيار الشهيد معاذ الكساسبة بهذه الطريقة البشعة، حتى ذهلوا من مجازر مروعة في دوما وريف دمشق على يد النظام السوري!
لا يقتصر الأمر على ارتباك الناس تجاه ما يحدث في سورية والعراق بشأن توصيف ما يجري؛ إذ يسألني عدد من الأصدقاء عن اليمن والحوثيين؛ هل الحوثيون ثوار ومظلومون، أم متطرفون مثل "داعش"، وتابعون لإيران؟ وهل ما يحدث في ليبيا حرب إقليمية بين القوى المدنية والمتطرفين، أم ثورة مضادة وانقلاب عسكري؟!
تقف فوق كل ذلك أسئلة أخطر بكثير، تُرهق كثيراً من المواطنين العرب اليوم، حول الإسلام نفسه، بعدما رأوا ما يقوم به "داعش"؛ أحدهم يسألني: هل فعلاً ابن تيمية الداعشي الأول، وليس شيخ الإسلام كما تعلّمنا؟! وهل الغزالي وأحمد بن حنبل وابن القيم وابن كثير يقدمون فتاوى مغايرة؟! وهل الإسلام الحقيقي هو ما يقدمه "داعش" من ذبح ودماء، أو الشيخ علي جمعة صاحب كلمة "اضرب بالمليان" (ضد المتظاهرين السلميين)؟ وهل ما يحدث في المنطقة هو بالفعل حرب طائفية بين السُنّة والشيعة؛ أم سياسية إقليمية تستخدم فيها الطائفية كأوراق تلعب بها الدول؟!..
لا أظن أنّ هناك ارتباكاً قيمياً ومعرفياً وروحياً مرّت به أغلبية الشعوب العربية خلال قرون، مثلما نرى في اللحظة التاريخية الصعبة الراهنة. فالناس محاصرون بثقافات قاتلة تاريخية، انفجرت فجأة في وجوههم؛ وبصراعات سياسية ومجتمعية قاسية، حطّمتهم روحياً وثقافياً، قبل أن تقتل مئات الآلاف وتجرّدهم من حقهم في الحياة، وتجرّد القاتلين من إنسانيتهم وقيمهم!
أصبح أمراً طبيعياً وعادياً أن تواجه كثيراً من الناس يعيدون صوغ السؤال الكبير: من نحن؟ إذا كان الجواب سوريين وعراقيين؛ فما يحدث مزّق هذه البلاد والوطنيات فيها، أم مسلمين؛ فهناك اليوم سُنّة وشيعة وإخوان وسلفيون وصوفيون يتنازعون الحديث باسم الإسلام. كيف نعرف المسار الصحيح، وكيف نعرف ما يريده الله وما هو الدين الذين من المفترض أن ندين به لله؛ هل هو قطع الرؤوس والذبح، أو تحليل قتل المدنيين؟
وإذا كان الجواب أنّنا عرب؛ فأين هي العروبة ونحن نفتك ببعضنا، ونفعل بأنفسنا ما لم يفعله فينا احتلال ولا استعمار حديث أو معاصر؟!
كنّا نتحدث في الأعوام الماضية عن إعادة تأهيل المجتمعات السورية والعراقية والليبية، بعد هذه المجازر البشعة والحروب الداخلية الطاحنة؛ بما يشمل مئات الآلاف من المواطنين والأطفال الذين تضرروا نفسياً واجتماعياً كثيراً مما جرى، هذا على فرض أنّه يمكن أن يكون هناك حلّ سياسي. لكن يبدو أن من المفروض أن تتم إعادة تأهيل للإنسان العربي في أغلب الدول والمجتمعات اليوم؛ في حال كان هناك أفق لنخرج جميعاً من هذه الأزمة التاريخية الروحية والثقافية والإنسانية المجتمعية! الغد