لم تكن الرائحة المنبعثة من تسخين الخبز أول ما تسلل الى أنفه ذاك الصباح فقد سبقتها رائحة غليان القهوة المعبقة بالهيل قبل ساعة حسب تقديره.......
يفرك عينيه ثم يجول بهما جدران الغرفة الموشحة بالرطوبة وآثار الزمن، أعد نفسه لسماع مناداة والدته لتناول الإفطار كعادتها كل صباح: تظاهر بالنوم ومسد الغطاء على جسده التعب من تعب الراحة وعنائها ولم يكتف بتغطية جسده بل أودع رأسه وديعة الغطاء وأسلمه إياه لينهي تسلل رائحة الخبز المحمص واحتمالية تلبيته دعوة الإفطار وليستأنف مراحل النوم المزعوم ويذهب بعيدا في عوالم الوهم الممتزجة بأحلام اليقظة.
أصوات الصبية في الشارع البعيد تتنامى الى مسمعه والباعة المتجولون لا يتوقفون عن المناداة على بضائعهم مؤكدين على ضرورة وصول أسماء بضائعهم بوضوح لكل أذن في الحي وطلاب المدارس - الذين لم يتخيل أنهم قد انهوا يومهم بمثل هذه السرعة - فقد مروا من تحت شرفة غرفته قبل قليل ذاهبين لمدرستهم مكابدين شقاء صحوة الصباح الباكر، وعلى الرغم من إدراكه أنها قد تجاوزت ما بعد الظهر إلا أنه لم يكن مستعدا بعد لمواجهة يومه أو النظر الى نفسه أو حتى للآخرين. لم تكن بداية يومه تلك على كل الأحوال تختلف كثيرا عن بدايات أيامه السابقة ويتوقع أن أحداثه لن تختلف عن ما سبقها من أحداث الأيام...الأسابيع...الأشهر أو ربما السنوات الثلاثة الماضية.
يغوص رأسه أكثر بين ثنايا الغطاء، يعبر أحلامه شريط ذكريات أيام الجامعة الجميلة، لم يكتشف حبه للجامعة إلا بعد تخرجه منها، ربما معاناة المسافة البعيدة وعسر الجيب وأزمة المواصلات حالت وقتها دون الاستمتاع بمساحة الحرية وإمكانية الانفتاح على العوالم الأخرى بسهولة وإدراك معنى كيف يكون الإنسان في مقتبل العمر ويمتلك من روح الشباب ما يتمناه الكثيرون.
لم يكن للدورات التي ألحقها بتخرجه أثر سوى زيادة في العبء المادي، وأما الرحلات المكوكية على الشركات والمؤسسات لتقديم طلبات التوظيف لم يتأت منها سوى التعرف على شخصيات و مجتمعات البلد المتنوعة ومواكبة التطورات في ارتفاع أجور التاكسي ومصاريف تصديق الوثائق والطوابع البريدية، أما رزم الصور الشخصية التي اتخذها بخلفيات و بوضعيات جادة لتضيف إلى السيرة الذاتية نوعا من المصداقية والمهنية فبالتأكيد انتهت بكبسة من وسط جبينه على معاملات منسية في درج مكتب أو سلة مهملات بلاستيكية، وفي كل يوم يعلن فيه عن دفعة تعيينات جديدة لديوان الخدمة المدنية يكون أول زائر لدكان الحي للحصول على الجريدة والاطلاع على أسماء الرابحين في يانصيب هذا الديوان للخدمة المدنية.
يأتي الى مسمعه المشوش بأحلام اليقظة صوت والدته مرة أخرى تدعوه بنبرة توسل واستجداء الى نفض الغطاء والاندماج في عالم الوعي و الحقيقة التي يحاول بدوره جاهدا أن يهرب منها وينساها، هو يعلم جيدا كيف ستؤول بقية يومه إذا استجاب لدعوتها ....على الأغلب سيسلم نفسه رهينة لقنوات التلفاز لتنقله الى عالم أوهام مصور لا يختلف كثيرا عن ما يراه في فراشه أو ربما سينصاع الى تلبية طلبات البيت المخطوطة في قصاصة ورق مزخرفة بطلاسم خط يد والدته أو سيبقى سجينا لإحدى غرف المنزل الضيقة في حال زيارة خاطفة تتجاوز الساعتين وربما أكثر لإحدى الجارات، وأما فكرة الخروج من المنزل لمجرد الترفيه عن نفسه أو الولوج الى عالم مختلف عن الذي يعيشه أربع وعشرين ساعة فقد كانت فكرة محكوما عليها بالفشل لأسباب مادية بحتة قبل الخوض بأي أسباب أخرى.
وبعد زمن من مغادرة الشمس منتصف السماء يشفق على نداء والدته المتواصل ويضع حدا لتوسلاتها فينفض الغطاء عن جسده ويترك فراشه، يغتسل بلا مبالاة بمياه باردة، يلمح وجهه بالمرآة يحاول أن لا يطيل النظر كثيرا، يسقط بجسده على مقعد متهالك، يمسك الريموت كنترول ويسلم نفسه الى عالم أوهام آخر ليبدأ يومه كبقية الأيام، الأسابيع،الشهور أو الثلاثة سنوات الماضية.