لم يكن الأردنيون يعرفون قبل أن يقرأوا مقال واحد من الكتاب أن مجتمعهم مختطف من قبل تيار متشدد، يتخذ من كلية الشريعة في الجامعة الأردنية بؤرة يتمركز فيها المتطرفون و"الدعاة الجدد" الذين لا يجيدون سوى (العزف على الربابة) على حد تعبير الكاتب، لكن ما يعرفه الأردنيون جيدا أن الاستثمار في جراح الأردنيين فيه هذا الوقت بالذات أمر معيب ولا يملك الحد الأدنى من الاشتراطات الأخلاقية والوطنية التي من المفترض أن يحوزها الكتاب والإعلاميون المطروحين على الساحة بوصفهم كتابا وطنيين، معيبٌ لأنه استثمار مسكون بالمنافع الذاتية الضيقة أو تصفية لحسابات شخصية أو يهدف إلى بلوغ الشهرة وجذب الأنظار عبر سلوك أقصر طريق.
ربما نسي الكاتب أن الوطن الذي استأمنه على هذه المساحة الإعلامية وجعله رئيسا لتحريرها، كان يأمل أن تكون المهنية والموضوعية وتحري الدقة والتثبت من مصادر المعلومة ومراعاة المصالح الوطنية العليا، هي السمات الأبرز التي يجب أن يتوفر عليها الأردنيون الذين يتصدون للحديث في الشأن العام، والمساهمة في تشكيل الوعي الجمعي للمواطنين.
لا يذكر طلاب كلية الشريعة في الجامعة الأردنية أن هذا الكاتب زار مبنى الكلية أو التقى طلابها أو أساتذتها، فكيف له أن يصف الكلية التي رفدت الوطن منذ ثمانينيات القرن الماضي بخيرة الكفاءات الفكرية والدعوية، وخرجت الوزراء والنواب والأساتذة والخطباء المتنورين ودعاة الوسطية والحوار وقبول الآخر، كيف له أن يصفها بأنها (مفرخة داعشية) اختطفت المجتمع وفرضت (سلوكات غير طبيعية وغير مفهومة) داخل الكلية؟، عند الكاتب فقط يكون تخصيص سلم (درج) داخل الكلية للطلاب وآخر للطالبات، داخل كلية تدرس الشريعة الإسلامية، سلوكا غير مفهوم ولا طبيعي، وأخاف أن يكون المسكوت عنه في خطابه هو مهاجمة الإسلام وليس العيب على تصرفات المسلمين. الأمر الذي لا يجعل الفرق كبيرا بين من يكتبون بهذه الطريقة وفي مثل هذه الأوقات مع من أساؤوا بأفلامهم ورسومهم الكاركاتورية للإسلام وشخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وليس في كلية الشريعة مدرسون يمنعون الطلاب من الجلوس الى جانب الطالبات، ويخصصون جناحا للطلاب وآخر للطالبات، وإن حدث ذلك فهو يحدث باتفلق ضمني بين الطلبة أنفسهم، ثم من أين جاء الكاتب بفرية منع الطالبات في كلية الشريعة من توجيه الأسئلة، على اعتبار أن "صوت المرأة عورة"، إن هذا الافتراء هو(العورة) بعينها، فكيف تمنع الطالبات من التكلم والحوار وكثير من مدرسي الكلية والذين يحاضرون فيها هم من الإناث؟.
إن المتابع للكاتب والقارئ الفاحص لمقاله يدرك جيدا أن مقاله هذا ليس سوى تصفية لحسابات شخصية بينه وبين الدكتور (أ.ق) واحد من أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الشريعة، حيث وصفه كاتب المقال بأنه من (الدعاة الجدد الذين يسرحون ويمرحون في كليات الجامعة، ويسيطرون في خطابهم المتطرف على منابر الجامعة الاعلامية، وموقعها الالكتروني تحديدا، لكن هل كان الخلاف الشخصي مبررا للافتراء والتقول ورسم صورة مجافية للحقيقة؟.
لقد عاب الكاتب ورئيس تحرير الصحيفة على إدارة الجامعة وعمادة كلية الشريعة عدم تصديها لممارسات طلبة الكلية وأساتذتها المتشددين، ووصف هذا الصمت بأنه رهبة أمام التدين الشعبي، وأكد أن هذه الممارسات: (لا ترضى عنها الأغلبية، وهي ليست من الدين بشيء، وإنما من مظاهر التدين الشعبي الذي غزا مجتمعاتنا بعد ثورة الإمام الخميني في إيران)، إن في هذه الأحكام العامة تزوير للواقع وخلط للأوراق فلا ندري ما الذي يعيبه الكاتب على تدين الشعب الأردني، وهل التدين شعبي ونخبوي وفق زعمه؟، ثم مَن سمح له أن ينصب نفسه باروميترا يقيس مزاج الأغلبية الشعبية ويحدد توجهاتها ورغباتها؟ والأغرب من ذلك كله ما دخل الخميني وثورته في إيران على ممارسات طبيعية يسلكها طلاب في كليتهم ارتضوها لهم لا تخالف الدين ولا المواضعات الاجتماعية، وما الرابط بين داعشيي الأردنية كما وصفهم وبين ثورة الخميني التي تتخذ من المذهب الشيعي قاعدة عقدية وفكرية؟.
هل كان الكاتب يدرك أن تزامن مقاله مع وقت مازال الأردنيون فيه يلملمون جراحاتهم باستشهاد طيارهم معاذ الكساسبة ويشدون من أزر بعضهم سيثير نعرات غير مسوغة، وسيسهم في تمزيق الصف وتشتيت الجهد والانشغال بمهاترات واستقطابات لسنا بحاجة لها ولا تخدم قضيتنا؟
إن الجامعة الأردنية بؤرة تنويرية تشكل محركا للعمل الطلابي المناصر للقضايا المعيشية والوطنية والقومية، وليس صحيحا ما أورده الرنتيسي من أن شريحة طلابية بعينها مستولية على المشهد الحراكي الطلابي وتنصب نفسها وصية على المجتمع، والدليل الأبرز هو انتخابات اتحاد الطلبة في الجامعة التي يتم تداول مقاعدها بين الأطياف الطلابية المختلفة بسلاسة دون استئثار بالموقع واحتكار للحقيقة، والجامعة أيضا بشهادة كل المتابعين مساحة للاختلاف الفكري الذي من رحمه يولد الإبداع والتحرر.أما الحديث عن العنف الجامعي فإن محاولة حصر أسبابه بوجود جماعات دينية متطرفة تدعي امتلاك الحقيقة فهذا ذر للرماد في العيون ومجانبة للصواب، وهذا دعوة لكاتب المقال لزيارة الجامعة للاطلاع على تجربتها في تشخيص أسباب العنف الجامعي والتصدي له والتخلص من مسبباته وآثاره، وكيف عملت الجامعة على تطوير المقررات الجامعة وعلى رأسها التربية الوطنية، وكيف تعزز بنشاطاتها روح التسامح، واحترام الحريات الدينية والفكرية والسياسية والعامة، عندها فقط ربما سيدرك االكاتب أنه أكثر الحزّ وأخطأ المفصل، فلا أحد يستطيع خطف المجتمع الأردني، وإن كان هناك من شيء مخطوف فهو، وللأسف، قلمُ الكاتب الذي جعل من مصلحته الذاتية هدفا أعلى من المصلحة العامة.