سياسة" الإنكار…إنكار السياسة
هشام غانم
15-04-2008 03:00 AM
في ردّه على "مزاعم" (واللفظة لوكالة "بترا") "هيومن رايتس ووتش"، التي وُسِمت بـ"شقاء مزدوج"؛ أتحفنا الوزير ناصر جودة بتحفة رائعة. والتحفة هذه، ربّما تَصْلح عيّنةً ممتازة في علم (أو إعلام؟) النقائض والمناقضة. فقال إنّ تقرير المنظّمة الدوليّة "مغلوط وعارٍ عن الصحّة (يريد: "عارٍ مِنَ الصحّة")، ويستند إلى ادّعاءات فرديّة (يريد: "ويستند على") واستنتاجات مبنيّة على أسس غير موضوعيّة وخلاصات غير سليمة (...) وأنّ الأردن يتعرّض لحملة تشويه مقصودة."
والوزير، في هذا المعرض، نفى وأنكر فوق ما "نطق" وأكثر. ونفيه ليس غيضاً مِنْ فيض "نطقه"، بل هو الفيض كلّه؛ فهو لم يورد قرينة واحدة تطعن في اتّهامات "هيومن رايتس ووتش"، ولم يُُثْبت واقعةً واحدة اسماً ورسماً؛ فكلامه مِنْ مبتدئه إلى نهاية مطافه يسدّ مسدَّ "لا" النافية. وإذا كانت البيّنة على مَنْ ادّعى (بحسب قول سائر)، فهي، والحال هذه، على مَنْ أنكر. فالمنظّمة الدوليّة مستقلّة ويقرّ لها مجتمع الدول بالنزاهة والمصداقيّة، وهي، فوق ذلك، تنتقد البلد الذي تأسّست فيه، أي الولايات المتحدّة، مِنْ غير خوف أو تردّد. وقبول الأردن التعاملَ معها، يعني أنّه رضيَ عن طيب خاطر بالمثول والسعي بين يديها.
وهذا كلّه، يترتّب عليه أنْ يبيّن المتّهم بيّناته، ولكنّه، مِنْ وجه آخر، ليس يعني أنّ "هيومن رايتس ووتش" في حِلٍّ مِنَ الجهر بيّناتها هي الأخرى. على أنّ هذا، مِنْ وجه ثالث، أو على رغم الوجه الثاني، ليس يعني أنّ عدم وجدانها بيّنات وقرائن تثبت التعذيب والترحيل القسريّ، "مغلوط"؛ فإذا لم يثبت العلمُ أنّ الأشباح موجودة، فهذا ليس يعني أنّ الأشباح ممتنعة أو غير موجودة؛ فعدم وجدان البرهان ليس ببرهان، (على زعم أهل المنطق.)
وعلى حين "نطق" الوزير نفياً وإنكاراً، سكت عن أصل وفصل اتّهامات المنظّمة الدوليّة؛ فهو لم يومئ، ولو مِنْ بعيد، لـ"مذكّرة التفاهم" الموقّعة بين الأردن وبين بريطانيا؛ وهي نصّت على تسليم "المشبوهين بضلوعهم في الإرهاب". و"المذكّرة" هذه، وُقِّعت مِنْ قِبَل حكومة عدنان بدران في العاشر مِنْ تشرين الأوّل (أغسطس)، 2005، وهي متوفّرة في الإنترنت.
ويندّد السيّد جودة بـ"عدم موضوعيّة" "هيومن رايتس ووتش" و "خلاصاتها غير السليمة"، وينكر عليها، مِنْ غير طرفة جفن، "استنادها إلى ادّعاءات فرديّة"؛ فينبغي، على ما يحتسب الناطق الرسميّ، أنْ تكون الادّعاءات "جماعيّة"؛ أي عدّة آلاف مثلاً. فالضحيّة الواحدة لا تستوي ضحيّةً بحسب هذا المنطق (مِنَ "النطق") إلّا إذا انضوت تحت جناح آلاف الضحايا. فإذا بلغ عدد الضحايا آلافاً، جاز أنْ تكون "الخلاصات سليمة". وعلى هذا، فألم الضحيّة ومعاناتها ليسا ألماً ومعاناة؛ فالضحيّة الواحدة ليست نفساً وجسداً وروحاً وبشراً، وإذاً، فهي ليست جديرة بالحقوق الإنسانيّة.
ويُنزل السيّد جودة مطارحةَ " "هيومن رايتس ووتش" منزلةَ "حملة تشويه مقصودة". والمنزلة هذه، توصم بكلّ غريب لا يرى رأيَنا ولا يماشي مزاعمَنا وصورتَنا "المشرقة" (والمتوهّمة) في مرآة أنفسنا. فالغريب، أي الآخر المختلف، وقح وكذّاب ومُغرض وخبيث بالفطرة، ولا يصدر عنه إلّا اللؤم والغدر، وهذان يجريان فيه مجرى الطبع. وصاحب القول هذا، يحاكي – غيرَ متعمِّد- مقالةَ الأصوليّين في الآخَر؛ فهؤلاء، يقيمون على جوابهم الأوتوماتيكيّ والأبديّ على مقالة العدوّ. فإذا قال العدوّ "لا"، قالوا "نعم"، وإذا قال "نعم"، قالوا "لا." فيرتدّ واحدهم ببّغاءً لا "ينطق" إلّا على الضدّ مِنْ كلام العدوّ.
ولكنّ هذا كلّه يقصر عن وصف "سياسة" النفي والإنكار التي ينتهجها الوزير الناطق (وهي لا تقتصر على موضوع هذه العجالة، بل تسري على قضايا كثيرة، آخرها موت ثلاثة سجناء، وقبلها: الخصخصة وأسعار النفط ورخص الهاتف النقّال...). ولعلّ وصفها الأرجح هو أنّها ليست سياسة. فالسياسة لا تستوي سياسةً إذا امتنعت مِنَ النظر والصدوع والإشهار على الأشهاد أو على رؤوسهم، (لامتحانها ونقدها وإعمال النظر فيها). ومَنْ يتولّى الإشهار والإخبار على الأشهاد هم أهل العلانية. وأهل العلانية هم الصحافيّون، والصحافة ربّة العلانية. وهذا لا يستقيم إلّا في "المجتمع المفتوح". فإذا استعصت العلانية، كان ذلك آية مِنْ آيات "المجتمع المنغلق"؛ حيث الإنكار والنفي "سياسة"، ولكنّها سياسة صمّاء وعمياء وبكماء. وعليه، فـ"سياسة" الإنكار هي إنكارٌ للسياسة. وهذه، بما هي إدارةٌ وتدبيرٌ لشؤون البشر؛ تنقلب، في "المجتمع المغلق، تفاعلاتٍ كيميائيّة وطبائعَ فيزيائيّة أرسطيّة.
والطبائع هذه، يتولّى "النطق" بها والعبارة عنها "ناطقٌ" مُنكِرٌ ونافٍ على الدوام. و "نطقه" يجري مِنْ طريق منطق ليس بمنطق، تختال وراءه لغةٌ طاووسيّة متعالية، منتشية بذاتها ومستغنية عمّا سواها، مِلحها وزادها النفي والإنكار، وقناعها وستارها "العلم" و "الإعلام"؛ ولكنّ أصحابها لا "يعلمون" أنّ "كلّ نفي إثبات"، وإذا علموا فالأرجح أنّهم لن "ينطقوا".
hisham@3c.com.sa