الأردن بعد استشهاد معاذ الكساسبة، بهذه الطريقة الهمجية البربرية، ليس هو نفسه قبل ذلك. وأحسب أنّ أغلب الأجيال الحالية من الأردنيين ما دون الأربعين عاماً، لم يشهدوا يوماً مريراً مرّاً علقماً، كالذي عاشوه مساء أول من أمس.
للمرّة الأولى، منذ عقود، يشعر الأردنيون بأنّنا أمام امتحان حقيقي؛ قيادةً ودولة ومجتمعاً. فهذه الجريمة أصابت كرامة كل الأردنيين، وخلقت مزاجاً عاماً في البلاد مختلفاً عما سبق؛ ينظر إلى ما يحدث حولنا ليس بوصفه أمراً بعيداً مستبعداً، نحن في منأى عنه، بل شرر النار قريب جداً. تلك النار التي تحوّل المجتمعات إلى جماعات متقاتلة، والدول إلى أشلاء، والناس إلى حطام بشري؛ وتنظيم "داعش" هو عنوان كبير من عناوين هذه الفوضى المرعبة.
بالضرورة، نحتاج إلى خريطة طريق جديدة اليوم؛ أولويات مختلفة؛ تفكير مغاير. فالأردنيون يريدون من الدولة ردّاً وانتقاماً لدماء الشهيد وكرامة الوطن. عواطف الحزن والغضب والمرارة أصبحت مثل الهواء الذي يتنفسه الجميع؛ لكن المطلوب الآن توظيف هذه العواطف في مسرب صحيح وطني ناضج مدروس، عبر قراءة مركّبة متعددة الأبعاد للمرحلة المقبلة، وتطوّراتها واحتمالاتها.
منذ عقود طويلة، لم يشعر الأردنيون فعلاً أنّهم أمام تحدٍّ مثل هذا. فقبل هذه الجريمة البشعة، كان هناك انقسام موضوعي ومنطقي في الرأي العام الأردني؛ بين من يؤيّد المشاركة المحدودة في الغارات الجوية ضد "داعش"، بوصفها جزءاً من "حرب وقائية"، وبين من يرى أنّها ليست حربنا، وأنّ الأردن في منأى عن المجال الحيوي لهذا التنظيم. لكن اليوم، وبعدما حدث، فإنّ الغالبية العظمى تشعر بأنّنا في "حالة حرب".
ندرك تماماً أنّنا أمام معركة معقّدة متعددة الأبعاد؛ وطنياً وإقليمياً. والمواجهة مع هذا التنظيم تتطلب منظوراً استراتيجياً بعيد المدى، وعلى مستويات متعددة؛ عسكرياً وأمنياً وسياسياً، وحتى ثقافياً. لكنّ المهم أنّنا أمام منعطف كبير في تاريخ الدولة، ويوم يؤرخ لما قبله وما بعده.
الحرب ضد هذا التنظيم لا تقتصر على الرد العسكري انتقاماً لمعاذ، فهي، أيضاً، لحماية أبنائنا من الوقوع في حبال هذا الفكر العدمي، مع تنامي مشاركتهم في أجنحة "جبهة النصرة" و"داعش"، ما يصل إلى ألفي شخص هناك، إضافة إلى مئات يتبنون هذا النموذج في المحاكم والسجون، وآخرين في المجتمع ما يزالون يؤمنون به.
في العقود الماضية، نجحت الدولة في معارك عسكرية وأمنية وسياسية في مواجهة تحدّيات وجودية؛ منذ لحظة تأسيس الإمارة وعملية بناء الدولة إلى السبعينيات، إذ كانت عقودا متخمة بالتحديات والتهديدات الإقليمية والداخلية الوجودية. وقد اجتازت الدولة تلك المنعطفات واللحظات التاريخية، بالرغم من أنّ الشكوك بشأن البقاء والنجاة وصلت، في بعض تلك المحطات، إلى درجة هائلة. لكنّنا عبرنا مع وجود رجال دولة بحجم المهمة والتحدّي.
اليوم، نحن في امتحان جديد، ليس وجودياً بالطبع، لكنه مهم جداً، بعد عقود من الشعور بالأمن والسلامة والبعد عن التهديدات الحقيقية ومناخات الحروب. فكيف سيكون أداء الدولة؟ وما هي قدرتها على تطوير نفسها؟ ومن هم رجالها الذين سيزرعون ويعززون ثقة الأردنيين بالدولة ومؤسساتها؟ هذا هو التحدي وذلك هو الرهان.
رهاننا هو أن نرتفع، جميعاً، إلى مستوى التحدي، وأن نعيد ترتيب أوراقنا وأولوياتنا، ونضع قراءة دقيقة لما يحيط بنا، ولمسار الحرب الراهنة، على مختلف الجبهات، وأن نبتعد عن الارتجالية والمدى القصير والمناكفات السياسية الداخلية الصغيرة. فربما تكون هذه الضربة القاسية على رؤوسنا هي ما أيقظنا لنصحو ونفكّر في المستقبل بوعي عميق، لحماية البلد من الأخطار والتهديدات المختلفة، وليس فقط الردّ على جريمة "داعش" بحقنا جميعاً.
الغد