"اتبع الشائعات .. "؛ أين الشفافية والوضوح!
د. محمد أبو رمان
14-04-2008 03:00 AM
من الأفضل أن نترك الكتابة والنقاش في جدوى التحولات الاقتصادية الجديدة التي تمرّ بها البلاد والقفزات والمشاريع المفاجئة التي تظهر على السطح إلى أهل الخبرة والتخصص القادرين على تقديم مناظرات ومناقشات عميقة وجدّية حول هذه السياسيات، وإن كنّا نفتقد هذه المناظرات والنقاشات، أيّا كانت الأسباب!
ما يمكن الحديث عنه ومناقشته هو الجانب السياسي. وهو جانب مهم وحيوي، بخاصة أنّنا لا نتحدث حالياً عن قضايا فنية ولا استثمارات فقط، إنّما عن بيع وتصرف في ممتلكات الدولة وأراضيها ذات القيمة الاقتصادية العالية، وبعضها ذات قيمة رمزية وتاريخية، ما يمثل مصدر اهتمام وقلق لكافة المواطنين على واقعهم ومستقبلهم، لأنّ أراضي ومؤسسات وممتلكات الدولة هي ملك للمجموع الوطني العام.
فهنالك غموضٌ غير مفهوم وابتعاد عن الشفافية الإعلامية والسياسية في التعامل مع هذه الموضوعات. وتلتقط الزميلة رنا الصباغ بذكاء أنّ الشارع يتحدث عن عمليات البيع والشراء والخصخصة قبل الإعلام والنخب السياسية.
ظلّ الحديث عن الأموال التي اشترت بها الحكومة ديون "نادي باريس" موضع نقاش وجدل بين اعلاميين ونخب سياسية، إذ كانت تصريحات وتسريبات المسؤولين تتضارب حول الموضوع وكأننا أمام مسألة أحاجي وألغاز، لا سياسات اقتصادية وطنية عامة وواضحة، وكان الشعور العام المعزز من بعض التلميحات الرسمية أنّ نسبة معتبرة من هذه المبالغ جاءت منحةً من الخارج بالإضافة إلى "أموال التخاصية"، لنتفاجأ قبل يومين بتوقيع صفقة كبيرة لبيع أراضي ميناء العقبة، وتخصيص الأموال المتوافرة (خمسمائة مليون دولار) لشراء ديون "نادي باريس".
وظلّ هنالك غموض رسمي اتجاه الشائعات التي تتحدث عن بيع أراضي المدينة الطبية وما حولها من أراضٍ عليها مؤسسات سيادية، وبعض الشائعات تضيف "حدائق الحسين"، ليفاجأ عدد من الكتاب التقوا بمسؤول كبير في الدولة قبل أيام يتحدّث عن خيارات وإجراءات محددة وفنية في قضية البيع. بمعنى أنّ المسألة ليست حول مبدأ البيع والتأجير، بل حول السعر والصفقة؛ هل تكون عامة أو خاصة..الخ.
وربما نكتشف أنّ ما تتحدث عنه "إشاعات المواطنين" عن مخططات لبيع أراضي المدينة الرياضية والجامعة الأردنية، قد تكون صحيحة، وعلينا أن "نصدّقها" في ظل غياب القنوات الرئيسة من التدفق المفترض للمعلومات والشفافية المطلوبة في العمليات الاقتصادية. وهي الشفافية التي تؤثر بصورة كبيرة على ترتيب الأردن ومصداقيته في الاستثمار والاعمال عالمياً.
السياسات الاقتصادية الجديدة، وتحديداً بيع أملاك الدولة والتخاصيّة، تتطلب وجود برلمان قوي وفاعل قادر على مناقشة هذه المشروعات ودراستها وإقرارها أو التعديل عليها، وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية. وتتطلب أيضاً أحزاباً سياسية فاعلة وقوى ضغط ومؤسسات مجتمع مدني قادرة على تعريف المصالح الاقتصادية ومناقشة السياسات المختلفة. وتتطلب فوق هذا إعلاماً ممكّناً غير مرعوب بقوانين المطبوعات والعقوبات أو التأثيرات الخارجية من هنا وهناك..
لكن ما يحدث واقعياً -على النقيض من ذلك-: برلمان ضعيف في مهمته الرقابية ودوره السياسي، وأحزاب معارضة هشّة لا تقترب من هذه الموضوعات، ومؤسسات مجتمع مدني بمثابة هياكل دون مضمون، وإعلام مغيّب، بل ومؤسسات حكومية على علاقة مباشرة بهذه الموضوعات تتفاجأ فيها كغيرها، ولا تمتلك معلومات دقيقة حولها!
مرّة أخرى، لست بصدد تقييم اقتصادي لعمليات البيع والاستثمار الواسعة، لكن هنالك تساؤلات مشروعة على الأرقام والمعلومات التي تقدّم حولها، بخاصة دعوى مساهمة هذه العمليات في حل مشكلة البطالة والفقر، إذ يتم الحديث عن خلق الاف فرص العمل، بينما في الواقع البطالة تتجذر، والفقر يتفاقم، والغلاء يصيب أمن المواطن الاقتصادي اليومي، ولا تلمس الشريحة الواسعة من المواطنين أية منافع سوى اكتوائها بنار الأسعار المحرقة.
وثمة أسئلة حول الأرقام التي تباع فيها هذه الأراضي أو تتم فيها التخاصيّة؛ فيما إذا كانت أرقاماً مناسبة أم أقل من قيمتها الحقيقية؟
والأهم من ذلك ثمة سؤال حول المعيار الرئيس في عمليات البيع هل هو القيمة المالية بعيداً عن الرمزية والذاكرة الوطنية وما لها من دور كبير في وجدان الأردنيين؟ ومن يقرر ذلك؟
مجمل التحولات الاقتصادية الحالية تتطلب مستوى أكبر وأعمق من النقاش ليس داخل نخبة اقتصادية محدودة محسوبة على اتجاه سياسي واحد، بل بين نخب واسعة ومتعددة لها خلفيتها السياسية والثقافية والاقتصادية وأن تكون المؤسسات السياسية الرسمية وغير الرسمية والإعلامية شريكاً استراتيجياً في هذه المقاربات، وأن يُربط ذلك بمختلف المجالات التعليمية والخدمية والثقافية والسياسية، وإلاّ فإنّ الفجوة المتزايدة من الثقة والشفافية بين الحكومات والمواطنين ستصبح عبئاً كبيراً على المشهد العام.