( الى روح الشهيد محمود محمد صالح
الذي أبى بعد أربعين إلاّ أن يعود،وإلى
أرواح شهداء الجيش العربـي وشهداء
الأمة الذين اختزنوا لنا في دمهم بقيـة
من كرامة )
--------------------
ما الذي أتى بك الآن يا محمود..؟
بعد أربعين أبيت إلا أن تعود .. وفي العين رسم امرأة ووطن ، والنية التي عقدتها من قبل تحفزك وتزيح عنك غبار الاربعين ... عينك تجوس في الجوار .. تبتسم لمن بقي من الثوار وتعود.
تنفض عن جسدك تراب ( عناتا ) (1) وتلملم ذكرياتك الأربعينية ، وعندما يعلن الفجر الوليد عن نفسه تركب أول خيط من الشمس وترحل الينا ...
ما الذي أتى بك الآن يا محمود..؟
ما بين فجرُ دِمك القاني وفجر أوبتِكَ ليل طويل ، اقتْتنا فيه – يا محمود - على الضياع وبعْنا فيه وجوهنا وغدونا وجودا بلا وجود.
هل يئستَ من بحثنا عنك ؟ فأتيتَ أنتَ تبحث عنا ، اعتمرت (كوفيتك ) وشددت ( القايش ) ولم تنسَ بندقيتك إذْ نسينا ومسحتَ حبات ترابٍ عن جبينك المتوضيء ، وناديت يا خيلَ الله ... فلامس صوتك حزن القدس وصمتنا والسكون .
تطرقُ بابنا – يا محمود – يلمعُ خاتمك ، امرأة تتحول كلها الى عيون ، فتاةٌ تهرول وتصرخ ... يرتدُ الصدى عاد الشهيد.. عاد الشهيد .. عاد....
نعمْ إن الشهداءُ دائما يعودون .
الشهداءُ لا يرحلون ، يغيبون قليلا وعندما تبحثُ عنهم كرامتنا ، يستعيرون أجنحة ملائكةِ الفجرِ ، فتغشى قلوبنا المهزومة سكينة ، ومسك دمهم القاني يبذر أرضنا بالكرامة ويبشّرُ بحقلٍ من ( دحنون ) الشهادة.
إنهم في كل مرةٍ يعودون يمسحون وجوهنا بمسْكِ جروحهم ، فنلوذُ بصمتنا المفضوح ، و يخجل أمامهم حين يقرؤون في دفتره أنه منذُ ذاك الزمان يحاول أن يُوقظ فجرهُ ولا يتمكنْ ، ويحاول فكَّ رموز عجزه ولا يستطيع.
ما الذي أتى بك الآن يا محمود ..؟
الآن تأتي بعد أن ضيَّعتْ (عادياتُنا) ضَبْحها (ومُورياتنا ) استكانتْ على ذُلٍ فهزُلَ قدْحُها (ومُغيراتُنا ) تغشّاها من الليل ما تغشّى فتاهَ عنها صُبْحها.
فهل بعد أن أدمنَّا الهزيمة نقدر أن نقرا كتابك ؟ هل أقلامنا البائسة تستطيع أن تكتب كلمة واحدة بعد قصيدة دمكَ الرائعة ؟.
يا محمود .. بعضُنا سيلقى دمك بعينٍ دامعة ، وكثيرٌ لا تنتظرهم فثمرتُهم فوق الكتفين خانعة، فهل سنقول لك لا تعود ؟ وأبقى إلى يومك ويومنا الموعود.
لكنك - يا محمود - تُصرُّ إلا أن تأتي ، فأغفر لنا أننا سنلثمُ يدكَ وننحني نقبلُ قدميك ونقول :
نحن محضُ هباء ، فأحفظْ لنا قبرك فنحن أولى به ،وأنتَ.. أنتَ عليك أن تعود .
يا محمود إن كان لا بدَّ أن تعودْ فاحمل لنا سنا برقك ورعود، وامدُدْ لنا يدك فالنارُ من تحتنا اشتدًّ أوارها من
(حزيران) (2)إذْ نحنُ عليها قعود ، وعلّق – يا بهي الوجه -على أبوابنا أوسمة الشهادة لعلنا بعد شُحّنا الطويل وصمتنا المريب ... لعلنا نجود.
-------------------------------
(1) عناتا القرية المقدسية التي دفن فيها الشهيد عام 1967.
(2) اشارة الى نكسة حزيران وتوابعها .