كم مرة في تاريخنا واجهنا لحظات عصيبة كهذه؟ يصعب على المرء أن يحصيها. ففي التسعين سنة الماضية، مئات المحطات الصعبة والأيام الحزينة، اجتزناها بفضل وحدتنا وتماسك جبهتنا الداخلية.
سقط المئات، بل الآلاف من الشهداء، دفاعا عن "العش الصغير" الذي بنيناه، بينهم ملك هاشمي، ورؤساء حكومات كانوا أعلاما، ودبلوماسيون، ومن قبلُ وبعدُ ضباط وجنود أحرار ما صغرت هاماتهم يوما، وأبرياء لا ذنب لهم، هنا في قلب عمان.
تعددت الواجهات والعناوين، لكن الاسم ظل واحدا؛ الإرهاب العابر للأديان والأيديولوجيات والدول. أخذ منا أفضل الرجال وأجمل الأطفال، لكنه ظل إرهابا منبوذا، لم يفلح يوما في هز ثقة الأردنيين بوطنهم ومستقبلهم.
ارجعوا إلى التاريخ؛ أين انتهى الإرهابيون ومن يساندهم، وأين أصبح الأردن؟ اندثروا، وصمد "العش الصغير".
نستذكر التاريخ وتلك الأيام، لأننا نواجه منعطفا خطرا، عبرنا مثله من قبل. مواجهة مع جماعة تهوى الموت وتشتهي القتل، تكره الحياة وتحتقر القيم الإنسانية.
جماعة حاولت اختطاف الدين قبل اختطاف البشر والمساومة على حياتهم. وهي اليوم تساوم أمة بحالها على تاريخها ودينها وحضارتها، وتسعى إلى فرض نموذج مختلق وكاذب لدولة لا تمت بصلة للدين الإسلامي، ولا لقيم العرب والمسلمين على مدار التاريخ. من العار أن تستسلم الشعوب لخيار المتوحش.
نحن في لحظة المواجهة، لنا أن ننتقد الأداء الرسمي وإدارة الأزمة. ومن حقنا أن نلوم ونعتب، لا بل ونغضب؛ الغضب يملأ صدور الأردنيين جميعا. لكن ينبغي أن لا نسمح بأخذ البلاد كلها رهينة في يد الإرهابيين، وأن لا نترك لهم ثغرة ينفذون منها لتمزيق وحدتنا الداخلية، أو العبث بعشنا الصغير.
نجادل بعضنا حول أنجع الطرق للخروج من الأزمة، وكسب المواجهة بأقل الأضرار، من دون أن نضحي ولو للحظة بكرامتنا ووحدتنا. إن فعلنا ذلك، سيكون عدونا هو الرابح.
ليس صحيحا القول إننا تخطينا الحدود في حربنا ضد الإرهاب؛ ماذا بوسع الياباني أن يقول إذن؟ صحفي لم يحمل السلاح في وجه الإرهابيين، ومع ذلك كان مصيره القتل! عامل إغاثة بريطاني حمل المساعدات للسوريين المشردين، ماذا كان مصيره؟! المئات من الأبرياء في الموصل والرقة وطرابلس وكوباني، ما ذنبهم؟!
لسنا مذنبين كي نشعر بوخزة الضمير. المذنبون هم فقط الإرهابيون الذين احتكروا حقا ليس لهم ولا لغيرهم من البشر؛ قتل البشر واختطاف الأرواح.
غضب الأردنيين مفهوم ومبرر، لأنهم يعرفون قيمة الحياة، ويقدسون كرامة الإنسان؛ لم يشهدوا في تاريخهم الدم يسفك في الشوارع كما الحال في دول الجوار اليوم.
حياة الإنسان قيمة تعلو على كل الاعتبارات. لم يخطر ببالهم أن يتعرض فرد منهم لمساومة رخيصة كالتي يتعرض لها الطيار البطل معاذ الكساسبة.
يشتعل الغضب في صدور الأردنيين، لأن شعرة في رأس معاذ أغلى عليهم من أي شيء. الإرهابيون لا يدركون ذلك، ولن يدركوا. القتل بالنسبة لهم أصبح مهنة لا يمارسون غيرها، ولذلك يمعنون في استفزازنا.
الأردني الذي عاش لعقود طويلة آمنا على حياته في بلده، لا يرى القتل إلا على شاشات التلفزيون وفي بلاد بعيدة عنه، لن يستسيغ يوما ثقافة القتل ولن يقبلها. سيظل يقاوم هذه الثقافة، ويحاربها، وينتفض في وجه من يمارسها.
غاضبون، نعم. لكن ليس على أنفسنا، وإنما على أولئك الإرهابيين.
(الغد)