وأنت في الطّريق للقاء الملك عبدالله الثاني، تزدحم في ذهنك عشرات الأسئلة التي تنوي وضعها بين يدي جلالته؛ للاستماع إلى الإجابة من لدن جلالته. وعندما يبدأ الملك الحديث يُجيبك عن كل أسئلتك قبل أن تسأل، وهذا دليل أكيد وواضح أنّ الملك يرسم في فكره الصورة الحقيقية والواقعية على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، الأمر الذي جعله والأردن مفصلاً رئيسياً وكبيراً في القرار الدولي.
أمس، عندما كنتُ أنا وزملائي رؤساء تحرير الصحف اليومية على مائدة الملك، شعرنا بوضوح الفكر وصلابة الموقف، خصوصاً فيما يتعلّق بالدفاع عن الإسلام وصورته الحقيقية، فأنت تشعر وأنت تستمع لجلالته بالحُرقة العميقة لما أصاب هذه الصورة العظيمة من تشوّهات، نتيجة ما تمارسه التنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة وغيرهما، من جرائم تمسّ الإسلام في صميمه، وتُسيء للمسلمين في جميع أنحاء الأرض، وهنا يبرز إصرار الملك الكبير على محاربة الإرهاب بكل صوره، دفاعاً عن العقيدة السّمحة التي أرادها الله تعالى، عقيدة رحمة وتسامح وقبول للآخر.
فالإسلام -كما قال الملك- يرفض القتل والتشريد والاعتداء على حُرمة الآخرين، وترويع الآمنين في بلدانهم مهما كانت انتماءاتهم ودياناتهم، فالدم كلّه في الإسلام حرام، بأمر إلهي، مهما كانت ديانة وجنسية صاحبه.
محاربة الإرهاب تكون على ثلاثة محاور، المحور العسكري، والمحور الأمني، والمحور الأيديولوجي، وبالمحور الأخير تكمن عملية تجفيف المنابع، فالتجفيف لا يكون فقط بقطع التمويل مالاً وسلاحاً، ولكنّه يجب أن يبدأ في الفكر، حيث يجب أن تكون الحرب على هذه الجبهة مفتوحة والعمل فيها متراكما، يبدأ من المدرسة والبيت والمسجد ومكان العمل؛ لنشكّل سدّاً منيعاً من خلال تحصين الأجيال بالفكر الصحيح والفهم السليم للإسلام، عن طريق المناهج وتحديد من يعتلي المنابر وتأهيلهم ليخاطبوا الناس بفكر نظيف، يعكس نظافة الإسلام وطُهره ونبذه للإرهاب والعنف بكل أشكالهما.
الملكُ يعتبر الدفاع عن صورة الإسلام الصحيحة مهمّة مقدّسة لكل المسلمين، وبالذات المؤسسات الدينية الكبرى في الأمة، وفي مقدمتها الأزهر الشريف، لما له من منزلة خاصة ومميزة لدى المسلمين، وعلى المسلمين أن يبادروا دون تردد؛ ليكون زمام الأمور في حرب العالم ضدّ الإرهاب بيدهم، وعليهم أن يبدأوا قبل أن يبدأ غيرهم، لأن المسألة تخصهم هم أولاً وأخيراً، وما يحدث اليوم على مستوى الإقليم والعالم، من محاولة لتلطيخ سمعة المسلمين، أمرٌ مرفوضٌ ويجب التصدي له، لأن الإرهابيين في جرائمهم يقصدون إيجاد فجوة كبيرة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وبهذا إضرار كبير بالأمة كلها.
عندما ذهب الملك إلى باريس، للمشاركة في المسيرة الدولية ضدّ الإرهاب، كان يعلم تماماً أنه ذاهب هناك للدفاع عن مصالح ستة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، وكان مُصراً أن يُرسل برسالة إلى الفرنسيين والعالم الغربي كله، أنّ هؤلاء هم ضحية قبل أي طرف، وأن ما حدث يستهدف أول ما يستهدف استقرارهم وأمنهم ومستقبل أبنائهم.
تشعرُ وأنت تستمع للملك عبدالله الثاني، أنه يحمل في صدره ألماً كبيراً لما آلت إليه أمور سوريا والعراق، وكل بلدان العرب والمسلمين، ويأتي إصراره على الحلّ السلمي في سوريا حرصاً منه على مصلحة الشعب السوري الشقيق، وحقّه في الحياة الكريمة المؤطّرة بالعدالة والحرية والمساواة، وكان هذا منذ اليوم الأول الذي انطلق به السوريون مطالبين بحقوقهم، ولو استمع النظام في دمشق لصوت العقل القادم من عمان، لما آلت الأمور هناك إلى هذا.
كما تتأكّد من أن الملك يحمل أيضاً هم العراق، فتستمع إليه وهو يتحدث بهمة عالية، عن ضرورة مكافحة التنظيمات المتطرفة، التي دخلت إلى العراق خلسة وغدراً، مؤكّداً على ضرورة دعم العشائر العراقية التي تخوض حرباً ضروساً ضدّ هؤلاء، لأنها بذلك تخوض حربها في الدفاع عن حياتها ومستقبلها.
فلسطين تشكّل لجلالته هاجساً دائماً، والقدس همّاً كبيراً، فتلحظه عندما يتحدث عن هذه المدينة المقدّسة كيف تتغيّر ملامح وجهه، إصراراً وحزماً بأنه لا يمكن التنازل عن حقّ الشعب الفلسطيني في دولته وحريته، كما لا يمكن السماح بمسّ القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية.
في الشأن الوطني، المُستمع للملك يعرف تماماً المساحات الكبيرة التي يعمل بها جلالته من أجل مستقبل شعبه، وضمان اقتصاد قوي ومستقبل مصون للأجيال، فعندما يتحدث عن الفقر والبطالة، تعلم أن هذا الموضوع هو ديدن تفكيره وحراكه المستمر؛ للتخفيف على الأقل من انعكاسات هذه المشكلة، متحدياً قلّة الإمكانيات وثقل الإلحاح.
يجب أن نكون جميعاً سنداً للملك في العمل الدؤوب؛ لخلق مستقبل زاهر للأجيال القادمة، لحمايتها من التحديات الكبيرة والتحولات الخطيرة في العالم الجديد، بعيداً عن التنظير من على المقاعد الوثيرة، الذي لا يُسمن ولا يُغني من صعوبة ظروف ودقّة مرحلة، ليظلّ الأردن مصاناً بقيادته وشعبه. وسيثبت التاريخ وستثبت الأحداث، كم يُقدم الملك عبدالله الثاني لأمّته، ويضحي من أجلها ومن أجل الإسلام.
(الدستور)