في الصحافة والإرهاب: ضباب وطني، واختلال في الأولويات!
حلمي الأسمر
13-03-2007 02:00 AM
يبدو أنه في الوقت الذي كان فيه الملك يتحدث على مائدة الغداء مع لفيف من رجال الأردن، عن أهمية سد الثقوب السوداء التي يمكن أن يدخل منها أعداء الأردن، ومهاجمته من باب حقوق الإنسان، كان نواب الأمة يقرون مادة في قانون العقوبات تدخل أصحاب الرأي من الكتاب والصحفيين إلى دائرة الإرهابيين!يمكن باختصار القول أن كل من شارك في صياغة وإقرار هذا التعديل وفر مادة دسمة للوبي الصهيوني لمهاجمة الأردن، وأعطى لأعوانهم ذرائع للدخول إلينا من تلك الخواصر الرخوية التي صنعوها، هل هو اتهام متسرع؟ ربما، ولكن حسن النوايا لا مكان له في التشريع في قانون "عقوبات"، ناهيك عن أن كل تشريعات الإرهاب سُنت تحت تأثير الغضب من الأعمال الإرهابية، ومست على نحو أو آخر بالحريات العامة للأفراد، ليس في الأردن فحسب، بل في جميع أنحاء العالم!
مجلس النواب الأردني شرع ما هو اخطر من عقوبة الحبس والغرامات المالية في قانون المطبوعات، حيث اقر البند الثاني في القانون المؤقت رقم 54 لسنة 2001 المعدل لقانون العقوبات والذي ينص على منع الصحف والمطبوعات من نشر ما يسيء الى الوحدة الوطنية وحريات الاشخاص وكراماتهم والى هيبة الدولة وسمعتها وكرامتها، وعقوبة هذا البند هو الأشغال الشاقة المؤقتة التي تتراوح عقوبتها بين ثلاث سنوات وخمس عشرة سنة، وهو أمر –كما يقول قانونيون- يهدد حرية الصحافة تهديدا مباشرا بالمحاكمة امام المحاكم العسكرية المسؤولة عن محاسبة كل متهمي الارهاب.
وتتبدى المسألة بوضوح أكثر حين نقرأ في الأسباب الموجبة لمشروع القانون.. انه ونظرا لتوسع مفهوم العمل الارهابي وتعدد اساليب تنفيذه وعدم شمول احكامه لجميع حالات ووسائل الاعمال الارهابية فان الأمر بات يتطلب تعديل القانون لتشديد العقوبات على كل من يرتكب جرائم الارهاب لسد هذا النقص في قانون العقوبات الحالي وبصورة خاصة للأسباب التالية:
1 - توسيع نطاق مفهوم الاعتداء على أمن الدولة سواء كان فرديا او جماعيا وتجريم اعمال الخطف بقصد ابتزاز الجهات الرسمية والخاصة وتجريم اي اعمال تؤدي الى المساس بأمن الدولة الداخلي والخارجي.
2 - منع الصحف والمطبوعات من نشر ما يسيء الى الوحدة الوطنية وحريات الاشخاص وكراماتهم والى هيبة الدولة وسمعتها وكرامتها.
3 - اضافة الرسائل الالكترونية الى الرسائل والوسائل التي حظر القانون الحالي ارسالها وتوجيهها الى جلالة الملك بصورة تفيد او تؤدي الى المس بكرامته واخضاعها للعقوبة المنصوص عليها في القانون.
4 - ملاحقة كل من يتقول او يفتري على جلالة الملك بقول او فعل لم يصدر عنه ذلك من يعمل على اذاعة ونشر ذلك بأي وسيلة بين الناس.
5 - مجاراة التشريعات الحديثة في ملاحقة جرائم الارهاب وتفعيل الاتفاقية العربية لمكافحة الارهاب الصادرة عن الجامعة العربية ومراعاة احكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بمكافحة الارهاب.
إن زج قضايا النشر والصحافة على النحو الذي تم في السياق آنف الذكر، يوجد جوا إرهابيا مسلطا على رؤوس الصحفيين وأصحاب الرأي، ويساويهم بالمجرمين الذين يمسون بأمن الدولة والمجتمع، ناهيك عن أن العبارات المفتوحة التي استعملها المشرع هنا توسع دائرة الإتهام المحتمل، كي تشمل عددا غير محدود من الآراء، فمن هو العبقري القادر على تفسير وتحديد معنى "الإساءة إلى الوحدة الوطنية وكرامات الأشخاص وهيبة الدولة وسمعتها"؟ ثم كيف يقر النواب الذين عارضوا فصل النائبين نصا فضفاضا عوقب به النائبان محمد أبو فارس وعلي أبو السكر بالفصل من مجلس النواب؟ ألا يعلم هؤلاء أن الضرر الواقع على الناس من تشريع كهذا لا يستثنيهم هم، وأن السكين التي تسلط على رقاب أصحاب الرأي يمكن أن تطالهم هم أيضا؟؟
إننا في الوقت الذي نشهد في المستويات العليا من بعض المسؤولين في الدولة حرصا على السير قدما في طريق الإصلاح، وتحسين مناخات الحرية، نشهد توجهات معاكسة ليس في مجلس النواب فحسب، بل في مستويات أخرى من المسؤولين، حتى أن المرء ليشعر أننا نعيش حالة ضباب ووطني وضياع واختلال في سلم الأولويات، فبلد يتحسب من هجوم صهيوني معاكس ردا على النجاحات التي سجلها الأردن في عقر دار اللوبي الصهيوني (الكونغرس الأمريكي) لا يمكن أن يوفر لهؤلاء المتصيدين أسلحة جاهزة للنيل من الأردن!
لقد غدت اصطوانة الإصلاح والدمقرطة في الأردن مشروخة إلى حد أنها ليست مزعجة فحسب ومؤذية للسمع والحواس السبع كلها، بل إنها باعثة على اليأس أو تكاد، وليس من المعقول أن يُترك هؤلاء وأولئك يحرفون المسيرة الوطنية الإصلاحية إلى حيث يهوون ويحبون، دون نظر إلى مكانة البلد وسمعته ومصلحة مواطنيه الحقيقية، لقد آن الوقت أن يسمع من له أذنان أن المكتسبات الديمقراطية التي حققها الأردن لأبنائه غير قابلة للاسترداد، وأن أي جهة تفكر بعكس هذا، يعني أنها تجدف عكس التيار، وأن هذا التصرف سيحدث في المجتمع اضطرابا وخلخلة قد تأخذ آمادا غير مأمونة العواقب، وستفتح الباب لتشكيل حضانات للفكر المتشدد، وبالتالي إنتاج أشخاص يغذيهم الشطط باتجاه جنون فكري قد يتحول إلى ما هو أشد وأنكى من الإرهاب ذاته، الذي يبدو القانون أنه حريص على مقاومته، فيهيء الفرصة لصناعته!
أما قصة ملاحقة أصحاب مواقع الإنترنت، فيبدو هذا ضربا من العبث غير المجدي، فهذه الشبكة العنكبوتية غدت عالما موازيا لعالمنا الطبيعي الذي نعيش فيه، وهو زاخر بكل ما يخطر بالبال وما لا يخطر به أيضا، وليس بوسع أحد أن يتعقب قراصنته وفرسانه الذين يسخرون التكنولوجيا لتحقيق أهدافهم!
أخيرا..
نشعر أن ثمة عقلية "ثأرية" شخصية تدير هوى من ينحون منحى التشدد، سواء في التشريع أو غيره، وهي مشاعر أبعد ما تكون عن حس المسؤولية، فالمجتمعات المتحضرة لم تعد أصلا بحاجة لقوانين مطبوعات ونشر، ولا لوزارات إعلام، وحتى في الدول التي يتوافر فيها أشد انواع القمع والبطش والاستئصال، لا تملك أسلوبا ناجعا لتكميم الأفواع وإرهاب أصحاب الرأي، فكيف بنظام أردني خلا من الدم وعامل معارضيه بالاستيعاب وكرمهم بالمناصب والتسامح؟ هل قرر أصحاب عقلية الثأر أن يرسموا صورة أخرى للأردن: دولة قمع تلاحق أصحاب الآراء بالأشغال الشاقة وتحاكمهم أمام محاكم عسكرية شأنهم شأن مهربي المخدرات والأسلحة وأدوات الموت؟
al-asmar@maktoob.com